الخميس ٢٢ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
البحر في الداخل
بقلم رانية عقلة حداد

توق الروح إلى مرفأ حريتها

راحت تعلو … تعلو وتعلو، تلك الموجة المشبعة بالتمرد، كيف للمرء ان يصمد أمام امتحان إغوائها … أمام شهوة احتضانها، وخوض غمارها، لم يقوَ رامون سامبيدرو بطل فيلم (البحر في الداخل) على شيء سوى الاستسلام لأعماقها … هل راح يسكن الموجة، كما لو أنها الحياة كلها، أو أنها الحب الرابض على مقربة منه فقرر الغوص فيها؟ أم ان الموجة هي التي كانت تسكنه؟

لكن ما كادت تلك الموجة تصل أقصاها حتى ان غمرها حنين الى جذورها… فانحسرت. ما كان له أن يغفل عن طيشها الذي كلفه كثيرا، كُسر عنقه فأصيب بشلل رباعي الأطراف … لا شيئا يتحرك منه، ولا جزءا تبعث فيه الحياة سوى رأسه.

هذا الحادث ألزم رامون ( خافير بارديم) الفراش، وهو في ريعان شبابه على امتداد ثلاثة عقود تقريبا، لم يرضَ يوما خلالها أن يستخدم الكرسي المتحرك لان القبول به - من وجهة نظره - كالقبول بفتات الحرية التي خسرها.

الفيلم مأخوذ عن قصة شخصية إسبانية حقيقية هزت المجتمع لفترة من الزمن، حيث أبقى (أليخاندرو امينابار) مخرج الفيلم على نفس اسم الشخصية رامون سامبيدرو مع إخفاء أسماء بعض الشخصيات الحقيقية الأخرى، وتغيير قليل في القصة فجعل منه الفيلم شاعرا مثلا … مما منح الفيلم بعدا شاعريا وفلسفيا تأمليا، ورامون في الواقع كما في الفيلم خاض نضالا طويلا في إسبانيا من أجل الحصول على حق إنهاء حياته… على حق الموت الرحيم … وتغيير القوانين الخاصة بهذا الشأن ونظرة المجتمع نحوها.

" لا يحيا ولم يقدر عليه الموت " ربما هذا المقطع الشعري لقاسم حداد، هو الأكثر قدرة على ملامسة وجع رامون، لم يكن الحب ما ينقصه، اذ كان مغمورا بحب ورعاية أفراد أسرته ( والده، وزوجة أخيه، وأخوه الأكبر، وابنهما الشاب)، إنما الحياة بكل ما تمتلكه من إمكان هي تماما ما كان ينقصه؛ الحياة تكافئ الحرية… تكافئ قدرته على الحركة … على الإحساس … على الحب … على التحليق، بالحد الأدنى الاستمتاع بملمس الأشياء وقدرته على خدمة ذاته، لكن ماذا يفعل وقد امتنعت عنه الحياة ؟ فعاش محروما والى الأبد من أي إمكان، إذا ليس سوى الموت وحده القادر على منحه الحرية، ولكن حتى هذا الآخر قد امتنع عنه أيضا، فلا هو يقوى بمفرده على نيله، ولا حب الآخرين قدم له هذه الفرصة.

كانت خينيه المسؤولة في منظمة الموت بكرامة، والتي تقدم كل الدعم المعنوي والقانوني اللازم لرامون، قد نسقت حضور المحامية جوليا التي تبرعت للدفاع عن قضيته، ولم يأتِ ذلك عبثا فهي مصابة بمرض خطير بدأ يقودها الى العجز التام واستخدام الكرسي المتحرك، الأمر الذي يفسر تفهمها واهتمامها بالقضية، وراحت تقضي الوقت كله مع رامون وتتعرف على تفاصيل حياته وتصغي الى ماضيه كي تساعده.

لماذا اخترت الموت ؟ هكذا بادرت جوليا بسؤال رامون فأجابها بما يلخص رؤيته " أريد أن أموت لان الحياة في هذه الحالة خالية من الكرامة"، ويستطرد " أعرف ان مشلولين آخرين مثلي قد يجرحون من قولي بانعدام الكرامة… ولكني لا أحاول الحكم على أحد، ومن أنا لأحكم على الذين يختارون الحياة ؟ لذا لا تحكمي علي أو على أي شخص يريد مساعدتي على الموت".

من المهم جدا أن نفهم جيدا مطلب رامون على انه مطلب شخصي، وغير عام فهو لا يتكلم باسم جميع من يشاركه المرض، وإنما باسمه الشخصي، والدعوة التي يقودها ومن خلفه منظمة الموت بكرامة، ليست دعوة للموت كما قد يختلط على البعض، وإنما دعوة للدفاع عن حق الإنسان بحرية الاختيار، سواء رغب باختيار الحياة أو الموت … وعلينا أن نحترم كليهما، قد يلتبس على البعض فهم هذا لكن الفيلم بمجمله يدعو للحياة من جهة، والحق بحرية الاختيار من جهة أخرى… ونلمس الدعوة الى الحياة بوضوح في عدة مشاهد منها المشهد الذي تضع فيه خينيه بطنها على أذن رامون كي يسمع نبض جنينها… نبض الحياة ،وتدعوه ان يعدل عن الموت كي يبقى حيا، فيخبر طفلها القادم عندما يكبر لماذا منحته اسم رامون. كذلك المشهد الختامي بالفيلم حيث تنسحب الكاميرا عن جوليا وقد اشتد عليها المرض، فأصبحت عاجزة وفاقدة لذاكرتها الى خينيه وزوجها وطفلهما يلعبون ويحتفون بالحياة معا.

لا يقف الفيلم عند نموذج رامون الخاص، وإنما يقدم أيضا نماذج أخرى، مصابة بذات المرض، أو بعجز ما ولكن خيارها كان مختلفا؛ بعضها اختار الحياة مثل الكاهن، والبعض مثل جوليا كان متأرجحا بين هذا الخيار وذاك… فيعرض الفيلم كل تلك النماذج المختلفة كي لا يحتفي بالموت كخيار، وإنما ليعزز مفهوم الحرية واحترام الخيارات الشخصية مهما اختلفت.

على امتداد الفيلم نتابع نضال رامون ومن حوله، من أجل انتزاع الحق بموت كريم على الرغم من تباين آراء عائلته إزاء هذا الموضوع، فيتوجه رامون من خلال التلفاز الى الرأي العام، والسلطات التشريعية، والدينية عارضا رؤيته … التي تم التصدي لها على مختلف المستويات ومحاربتها، وتصدر الحديث كاهن -بذات وضع رامون - على كرسي متحرك عارضا نفسه نموذجا لحب للحياة، مشخصا حالة رامون من خلف الشاشة بأنها نقص في الحب الممنوح له من عائلته، فيحاول بذلك ان يلفت انتباههم، وهو بدوره يدعوهم لمضاعفة رعايتهم وحبهم لرامون، هكذا رغبت مختلف السلطات والرأي العام بقراءة نضال رامون، وهي محتفظة بكل تلك المسافة عن معاناته.

الا ان هناك من استطاع رامون ان يلمس شغاف قلوبهم المتعبة باعثا فيها نبض الحياة من جديد … كان لروزا عاملة المصنع البائسة نصيب من ذلك، فقطعت مسافات طويلة كي تقنعه بالعدول عن الموت، وإذ بها تكتشف في مرآة عينيه أنها اكثر موتا منه في ذات اللحظة التي أعاد لعينيها لون الحياة، فتقع في غرامه، لكنها ليست المرأة الوحيدة المتورطة بذلك، فهناك جوليا أيضا حيث ما يجمعها برامون أكثر مما يجمعها بزوجها، انهما يتشاركان بالمرض، والعجز على تباين درجاته بينهما، كما ان رامون بالمقابل صار يكن لها الحب بالمثل.

الحب …وما هو الحب ؟ من وجهة نظر روزا وجوليا وأهل رامون هو التمسك بمن نحب، هو الاحتفاظ برامون حيّا بقربهم حتى ولو كان يشرب كأس عذابه الى الاخر.

أما معادلة الحب بالنسبة لرامون فهي واضحة لا لُبس فيها " من يحبني حقا سيكون الذي سيساعدني على الموت"، هذا هو امتحان الحب، من يحبه سيقدم له مفتاح حريته … قليلا من السيانيد وبعدها سيحلق من جديد في عالم تتحقق فيه الأحلام.
لم تقوَ روزا على الامتثال لهذه الرغبة، لكن جوليا في اللحظة التي اشتد عليها المرض، والإحساس بالعجز اندفعت فمنحت رامون وعدا بأنها ستقدم له السيانيد ومن ثم تتجرعه هي … فتنهي بذلك عذاب كليهما، في هذه اللحظة تحديدا، وفقط في هذه اللحظة النادرة أشرقت عينا رامون واكتسب صوته حنانا خاصا وهو يسألها متى ؟ ارتبكت وهي تجيبه…" عند الانتهاء من طباعة مجموعة أعمالك الشعرية "، فراح ينتظر ذلك اليوم بأمل اذ انها اللحظة التي طالما حلم بها، كانت عصية ولكنها قد اقتربت الان.

واصلت القضية سيرها في المحاكم الإسبانية، وحان وقت الجلسة التي من المفترض ان تستمع فيها المحكمة لأقوال رامون، لكنها رفضت ذلك وردت الدعوة، الأمل بوعد جوليا هو ما منح رامون الصبر والقوة على تحمل هذه الخسارة.

ومن أجمل المشاهد في الفيلم، ذلك الذي يقبل فيه رامون الخروج للمرة الأولى من البيت منذ زمن طويل، وللمرة الأولى أيضا واليتيمة التي يقبل فيها استخدام الكرسي المتحرك، يقدم كل ذلك من أجل الدفاع عن حقه بالحرية أمام المحكمة، يعلم في سره أنه لن يربح القضية، الا انه يريد أن يُسمع صوته عاليا لعله بذلك يضع لبنة الأساس الأولى، وجمال المشهد يكمن في اللقطات المتقاطعة لرامون، جسده الصامت، ونظرة عينيه العميقة والحزينة، مع لقطات لإمرأة تشد بيد طفلها باتجاه المنزل…شاب يمسك بيد حبيبته وهما يتسلقا التل… حيوانات تتناسل… حركة المراوح العملاقة لتوليد الطاقة، كل تلك الحركة كل ذلك الصخب لمظاهر الحياة إزاء عزلة جسده وسكون حياته.

" رسائل من الجحيم "

أن أعبدك وأدخلك الى الأبد

يا حبيبي الساحر

أيها البحر الحبيب.

كانت لحظة عصيبة تلك التي استلم فيها رامون بالبريد نسخة من ديوانه الشعري الصادر… ماذا يعني هذا ؟ جوليا قد خذلته لن تفي بالعهد، تبددت كل أحلامه بالموت هذا ما نقرأه عميقا في عينيه، انتابته بعدها نوبة اكتئاب شديدة، لم يخرجه منها سوى قرار روزا بأن تثبت له حبها لكن هذه المرة بصيغة مختلفة؛ أن تحب أي أن تضحي برغبتها بالإبقاء على من تحب …أن تحتمل الشعور بالفقد من أجل أن يحصل هو على الراحة الأبدية التي يحلم بها، فقدمت له ما كان يلزم لذلك. فيختم رامون حياته برسالة مصورة بالفيديو، موجهة الى الجميع ويستهلها بسؤال عن معنى الكرامة ؟ ويستطرد " بغض النظر عن جواب ضميركم لقد تأكدت من أن حياتي بلا كرامة، فأردت أن أموت بكرامة على الأقل … أعتبر الحياة حقا لا واجبا كما كانت في حالتي، وحده الوقت والضمير البشري المتطور سيقرران يوما، ما إذا كان طلبي معقولا أم لا ".

يتضمن الفيلم مشاهد مؤثرة ومهمة لا يمكن تجاهلها والعبور عنها دون ذكرها منها المناظرة الساخرة بين رامون والكاهن المشلول تماما، وكذلك المشاهد التي ينتقل فيها رامون بخياله من غرفته ويقطع مسافات شاسعة نحو البحر فيحلق كنورس فوقه، معانقا حبيبته جوليا هناك، فتغدو أحلام يقظته هذه وحدها القادرة على منحه الحياة حيث يتحرر من قيوده.

الفيلم إنتاج العام (2004) حصل على عدد كبير من الجوائز الدولية على رأسها جائزة أوسكار كأحسن فيلم أجنبي، وأعاد هذا الفيلم مخرجه (أليخاندرو امينابار) حيث جذوره الى السينما الإسبانية، مقتربا به من عمق المشاعر الإنسانية بعيدا عن نمط أفلامه الهوليودية السابقة، والمقترنة بالإثارة مثل فيلمه ( الآخرون ) والذي يروي قصة أرواح ميتة، أما الممثلون فجميعهم أجادوا عملهم على رأسهم الممثل (خافير بارديم) بطل الفيلم الذي جسد دور رامون في غاية الروعة، حيث نجح في القبض على إيقاع وروح الشخصية والنظرة العميقة، والهادئة لكن القادرة رغم حزنها، وألمها على منح الحياة للآخرين، كما يجب الإشادة بالمكياج الموظف في خدمة تكبير شخصية البطل.

" البحر في الداخل " من الأفلام الإسبانية الهادئة والآسرة معا، يأخذنا لنبحر معه في روح الانسان ونغوص عميقا في داخله، ويدعونا الى التخلي عن أحكامنا المسبقة لنمنح عقولنا فرصة التأمل، واعادة التفكير في تعريف كثير من الأشياء، على رأسها الحق بحرية الاختيار كأمر شخصي، فهل نقبل الدعوة ؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى