الأربعاء ٢٨ تشرين الثاني (نوفمبر) ٢٠٠٧
بقلم محمد متبولي

الجانب المظلم

من المدينة

لم أتخيل يوما ما إن لقاءا عابرا مع احد الأصدقاء القدامى سوف يتحول إلى زيارة إلى العالم المظلم، و أنني سوف أعبر الحدود إلى الجانب الآخر من المدينة عبر بوابة إحدى المقاهي التي أعتدت المرور عليها و مشاهدة الشباب من كلا الجنسين متراصين أمامها وداخلها والجو حولها معبأ بسحابات من الدخان الكثيف، إنها الواحدة بعد منتصف الليل و مازال الجو صاخبا و الناس يتوافدون، لم استطع أن أجاريه هو وأصدقاءه في الحديث، فغرابة الكلام أعجزتني حتى عن طلب الاستئذان بالذهاب، و لن أنكر أن الفضول و شعورا بعدم الفهم كانا سببين أساسيين في ذلك، فمغامرتهم منذ آخر لقاء، حكايات العشيقات و بنات الليل، التباري في خطف الصديقات من بعضهم البعض، التباهي بالتغرير بالعذارى و عرضهن عليهم أجسادهن دون أدنى مقابل أو وعد زائف بالزواج عندما تتحسن الظروف، أحدث أنواع المخدرات و معانتهم واللحظات العصيبة التي مروا بها بعد القبض على الموزع الذي يشترونها من عنده،آخر الشرائط الفاضحة التي وصلت إليهم و أشهر ممثلي الأفلام الإباحية، كلها كانت مواضيع الساعة بالنسبة لهم، فالمتعة هي الهدف الأسمى.

بدأت اشعر بعدم الارتياح و شعرت أنهم يتغامزون و يتلامزون على و كاد غضبى أن ينفجر في وجوههم لولا أنني رأيتهم ينظرون من حين إلى آخر لرجل يجلس في ركن منزو في المقهى، و قد بدت عليه علامات القلق و فراغ الصبر من الانتظار، فألقيت نظرة حولي لعلى أفهم شيئا مما يدور، فالثنائيات كانت تسيطر على الدور السفلى من المقهى، فعدا طاولتنا و طاولة رجل الركن كان كل شاب يجلس و أمامه فتاة، تقترب أفواههم من بعضهم البعض، يتهامسون، يتداعبون و ربما يقبلون بعض، حتى ملابس الفتيات كانت تشف أكثر مما تستر، و من حين الى آخر كان أحد الثنائيات يصعد إلى الدور العلوي المتصاعدة منه أصوات الضحكات الفاضحة.

لحظات من السكون توجهت خلالها الأنظار نحو رجل الركن و قد انفرجت أساريره و بدت عليه علامات الارتياح، فقد اقبل من كان ينتظره، شابا يافعا تظهر عليه علامات الصحة و الفتوة، جلسا سويا و شعرت بغرابة شديدة فطريقة حديثيهما لا تعبر عن حديث عادى يدور بين صديقين حميمين، فالإيماءات و النظرات و الحركات التي كانت بينهم تدل على أن شيئا غريبا يحدث، و صدق حدسي فسرعان ما صعدا متلاحمين الاكتناف إلى الطابق العلوي، حينها بدأت رائحة كريهة تنفذ إلى أنفى، فرائحة الدخان لم تكن هي نفسها التي اعتدت عليها صاعدة من الشيشة و لونه لم يكن هو نفس اللون، فجميع أنواع المسكرات و المخدرات وحبوب الهلوسة كانت تشرب و تدخن و تأخذ في هذا المكان، حتى رائحة الأفواه كانت و كأن أحشاءهم تعفنت بداخلهم و صعدت منها رائحة نتنة لتعبأ الأجواء، و شردت بعقلي لأفكر فيما يدور، و أفقت من غفوتي على صوتها و هي تقول له ( آسفة تأخرت عليك، فقد كان معي ربونا سيدفع بالعملة الصعبة و لم أستطع أن اتركه قبل أن يحقق الرضاء الكامل)، حينها أهم صديقي في الصعود بها إلى أعلى ثم فاجأني بعرضه على الصعود معهما واندهشت من العرض و طلبت منه المغادرة لكنه قال ( لا تخف إنني اعلم انك لم تجرب من قبل، فلتشاهد أولا وان أعجبك فلتجرب)، لم أعلق، نظرت إلى عينها فلم ألمح حتى نظرة خجل عابرة، كأن الأمر لا يتعلق بها، كانت أمامي كالمومياء و قد لطخت وجهها بكل ما وصل إلى يديها من مستحضرات التجميل، صعدا ... كانت تسير خلفه كأنها بهيمة يقتادها صاحبها إلى حيث يريد ليفعل بها ما يشاء.

و أخيرا رحلت عابرا الحدود مرة اخرى الى جانب المدينة المشرق حيث أنتمى و ينتمى معى الغالبية الكاسحة من أبناء المدينة،و رأيت لاول مرة منذ فترة طويلة ضوء الفجر، و ملئت صدرى بهواءه المنعش، و أشرقت الشمس لتطهر بحرارتها ما خلفه الليل من فساد، و بدأت افكر بهذه الرحلة التى رأيت فيها عالما لم أكن أتوقع اننى شأشاهده يوما ما، و كيف أفلت من براثنه كما يفلت الفأر من مخالب القط، ففى الوقت الذى يقاتل فيه الملايين بالسلاح و الكلمة و القلم و العقل و أنابيب المختبر من أجل تحرير اوطانهم و ازدهارها، يعيش اخرون كمسوخ مشوهة على اطراف المجتمع، كائنات نصفها بشر و نصفها الاخر خفافيش، ارتضوا اللذة اله، و الشيطان صديقا، و الظلام حياة، و اليأس مصيرا محتوم.

من المدينة

صالة العرض


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى