السبت ١ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم ميلود بنباقي

أو.. كالشـــــــــــــــــــيء

نفد صبره ولم ينفد هذا الصهيل في أذنيه، يصمه ويصيبه بالجنون والدوخة والغثيان. يعمي بصره.

المنزل يصهل والشارع يصهل وجاره يصهل وبطنه تصهل والأولاد يصهلون ونشرات الأخبار تصهل... العالم كله يصهل. العالم يكبر.. ويضيق. يتمدد ويتقلص. الضيقة تجثم على صدره، تخنق أنفاسه فيلهث كفرس سباق مهزوم ويسعل كمسلول لم يجد سريرا في مستشفى عمومي.. الضيقة والصهيل وليالي الشتاء الباردة ولون الغروب المتبدل. الدوخة والجنون والغثيان والعالم حوله يضيق، يكبر ويضيق... وطعم الحياة باهت ومر.

يخلع نعله ويتمدد على السرير. تعلق عيناه بسقف غرفة صغيرة معتمة تطرزه خرائط بؤس قديمة خبر بطول العشرة تفاصيلها وتضاريسها وأطل ببصره وبصيرته على سراديبها ودهاليزها السرية. شقوق وتصدعات ترسم على السقف أشكالا غريبة، متاهات سوداء موحشة لا بداية لها ولا نهاية. منعرجات ودروبا وسخة كأنها دروب الحارة الضيقة التي يحتلها المعتوهون والمتحرشون والمخمورون وتجار المخدرات واللصوص المبتدئون.. يقتسمونها مع الذباب والبعوض والجرذان والكلاب الضالة ولا يتركون منها للسكان سوى الفوضى والضجيج والقذارة والشتائم البذيئة.

شقوق على السقف والجدران، شقوق على قدميه المتعبتين ويديه الغليظتين، شقوق في القلب والذاكرة .. ذاكرته وذاكرة الأيام المتشابهة.

سقف بليد متهالك، يتداعى بالسقوط في كل لحظة. يحجب عنه صفحة السماء البعيدة الزرقاء الفسيحة. يحجب ضوء الشمس والهواء. يحجب رحمة الله الواسعة.. "رحمة الله عليك يا منصور يا جدي، يا ابن عمران بن الحاج الواحدي. عشت طول عمرك في خيمة، وفي خيمة أسلمت روحك الطاهرة لبارئها. لم تفرط في حقك ونصيبك من الهواء والشمس والاتساع. الاتساع ربيع كنت تقول دائما، ونحن عندما ضاق بنا الحال وضاقت بنا الجدران والمسافات.. صرنا نقول لبعضنا: الاتساع في الخاطر وفي القلب. والحق أن الخاطر والقلب أضيق من هذا المكان."

تنهد بمرارة. تذكر شبابه. كان له شارب كث ككل الرجال المزهوين بخلقتهم وخشونتهم. كان له ظهر معقوف كالمنجل وحفنة أحلام. الآن لم يعد له سوى الظهر المعقوف. اختفى ظله لأنه صار يزحف على الأرض كالحشرات الوضيعة وما عاد قادرا على الوقوف منتصبا دون انحناء. تهاوت شعيرات شاربه وخط الشيب حاجبيه وصار جسمه رخوا. تبددت الأحلام التي ملأت قلبه في غفلة من الزمن الغدار.

تنهد مرة أخرى وأطفأ المصباح فتاه في ظلام حالك.. لم يعد أمامه وخلفه وعلى جنبيه سوى الظلام، أما فوقه فلا شيء. السماء نفسها لم تعد فوقه، السطح المتشقق المتداعي بالسقوط نفسه لم يعد فوقه، ولا صارت الأرض تحته. أصبح ذرة غبار صغيرة في فضاء فسيح لا نهاية له. يسبح، وعندما يتعب يستسلم لتيارات الهواء العنيفة. ثم يسبح من جديد ويتعب من جديد، فيسلم للريح قدره وأنفاسه المضطربة.

أرخى جفونه وحاول أن ينام. نام فعلا. لكنه لم يصدق أنه نام إلا عندما حلم. رأى شيئا أو كالشيء يدنو منه، يستل يديه الطويلتين من جيبي معطف أسود ويضغط بهما على رقبته الضامرة. اعترف، يقول له. ماذا تخبئ في هذه الغرفة السرية التي لا يصلها ضوء ولا هواء ولا ساعي بريد ولا سيارة إسعاف ولا عمال نظافة ولا المشرفون على الإحصاء العام للسكان والسكنى ولا رحمة الله الواسعة...؟
لا أخفي شيئا سوى جسدي المنهك، يرد متلعثما.
وماذا تخفي في جسدك المنهك؟
لا شيء سوى أمعائي.
وماذا تخفي في أمعائك ؟
لا شيء سوى أمعائي.

يضغط على رقبته الضامرة، يحدجه بنظرة زائغة حاقدة ويصيح بجنون: لا بد أنك تخفي شيئا، اعترف.
سأعترف قال له...

أزاحت الغطاء عن وجهه الشاحب وأيقظته. اتفل على صدرك بسم الله. جثا على ركبتيه وتفل على صدره حتى جف ريقه ويبس حلقه، وسمى الله حتى كل لسانه.. بسم الله الرحمان الرحيم, بسم الله الرحمان الرحيم... نظر إليها بارتياب، وقال: هل تخفين شيئا في هذه الغرفة يا امرأة؟ اعترفي.
سم الله ونم، قالت له.

جلبة وضوضاء على قارعة السرير. سليمان النجار يرغي كبعير معتوه ويضرب كفا بكف. شركة الماء والكهرباء تبحث عنه، شركة الاتصالات تبحث عنه. البقال يقتسم معه سرير النوم، الصبية في الدرب يقذفون الكرة في اتجاهه فترتطم تارة بوجهه وطورا بظهره. روائح التبغ الرديء تزكم أنفه، روائح السمك المقلي والذرة، رائحة الرطوبة، رائحة البول، رائحة البؤس... الشقوق في السطح ترسم أشكالا غريبة ومخيفة. و هو فعلا خائف. يرتجف من الخوف، يموت من الخوف، تصطك أسنانه ويغمر العرق البارد وجهه الممتقع... وذلك الشيء يدنو منه، يضغط على رقبته الضامرة ويصيح بجنون: اعترف، ماذا تقرأ في هذه الغرفة المعتمة؟ يرد: لا شيء. يضغط أكثر ويغضب أكثر.

مسحت العرق عن جبينه وأزاحت عنه الغطاء وأيقظته. جثا على ركبتيه. سمى الله وتفل على صدره. نظر إليها بارتياب وقال: هل تقرئين شيئا يا امرأة؟ تنهدت ولم ترد. لعن الشيطان وحاول أن ينام.

تاه في الظلام، ظلام أمامه وظلام خلفه وعلى جنبيه، ولا شيء فوقه، حتى الشقوق على السقف لم تعد فوقه. حتى السماء الزرقاء البعيدة لم تعد فوقه، ولا صار السرير القديم تحته. الضيقة في صدره والصهيل في أذنيه والدوخة في رأسه والعالم حوله يضيق. يكبر ويضيق، يتمدد و يتقلص والشيء يدنو من جديد. يضغط على رقبته الضامرة من جديد ويقول له اعترف، وهو لا يدري بأي شيء يعترف.

يستيقظ من تلقاء نفسه هذه المرة، يجثو على ركبتيه ويسمي الله ويمسح العرق عن جبينه. ينظر إليها بارتياب فيراها ترتعد على السرير، يوقظها . اتفلي على صدرك وسمي الله يقول لها، فتجثو على ركبتيها. تسترجع أنفاسها وتقول له: هل تقرأ شيئا في هذه الغرفة المعتمة؟ هل تخفي شيئا؟ يضحك ويقول لها: العني الشيطان يا امرأة. تدنو منه وتضغط على رقبته وتصيح بجنون: اعترف. في هذه اللحظة العصيبة يظهر الشيء، أو ذاك الذي كالشيء، يدنو منه. يخرج يديه الطويلتين من جيبي معطف أسود ويضغط على رقبته بدوره. زوجته تضغط والشيء يضغط وهو يحاول أن يجثو على ركبتيه ليتفل على صدره ويسمي الله.. فلا يستطيع.

ينتهي الكابوس وينقضي الليل. يستيقظ من النوم متعبا، يتحسس رقبته فتتلطخ أصابعه بدم طري. يهرول نحو أقرب مستشفى، يتلقى الإسعافات الأولية. يقدم شكاية للشرطة فتصدر مذكرة بحث دولية عن زوجة اعتدت ليلا على زوجها، وشيء، أو كالشيء، تواطأ معها وشاركها الجريمة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى