الجمعة ٧ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم بسام الطعان

ورد يبكي

ارتفعت صيحات مفاجئة في الشارع الذي لم يرتد كامل يقظته بعد، فانفتحت كل الأبواب والشبابيك، ثم انتشر خبر هـز البلدة كلها وحولها إلى خلية نحل.

طار النوم من عينيَّ، فخرجت مسرعاً وأنا أرتدي منامتي ثم لحق بي أخي، وأبي و... و... رأيت حركات غير طبيعية، ورأيت الرجال والنساء والأطفال يركضون باتجاه الغرب وقد تشعبت الدهشة في ذواتهم.

"ماذا حصل؟"

لم يكلف أحد نفسه بالرد على سؤالي، فركضت خلفهم إلى أن رأيت ما رأيت.

وأنت يا عريس، يا صـديقي الوفي، كنت مـرمياً بين الأشجار المزروعة في مدخل البلدة الغربي، ترتدي بذلتك السوداء، وقميصك الأبيض، وربطة عنقك الذهبية، وكانت سـكين لئيمة مغروزة بغرور في أقصى صدرك، فتبدو وكأنها إسفين أسود مغروز في كومة من الثلج، أبعدت من في طريقي واقتربت منك، فرأيت خرائــط الدم مرسومة على رقبتك وصدرك وتسـريحة شعرك، وكانت البراءة ومعها كل ابتسـامات الأمس، ليلة عرسك , واضحة على شـفتيك وعينيك المفتوحتين.

بحثت عن عروسك بين الوجوه الكثيرة فلم أجدها.. كثـيرون كانوا يحسـدونك على حبها لك، وعلى جمالها الخارق ونقاء روحها. سألت عنها وأنا أتأبط الهذيان، فلم يرد عليّ أحد.

"هل هربت أم خطفت في عتمة الليل؟"

آه يا صديقي.. قبل ساعات كنا زوجتي وأنا في حفل عرسك وبعد أن رقصنا وغنينا وضحكنا وترنمنا مع المواويل في النادي المكتظ بكل أنواع الفرح،ودعناك وودعنا عروسـك التي كانت تتأبط ذراعك وترش من حولها البسـمات، وحين سرت معها باتجـاه السيارة لتجمعكما ليلة من أجمل الليالي، لوّحت لنا، وطلبت منا أن نزورك، فوعدناك مع تلويحة أن نكون عندك في المساء.

"أين العروس؟" صاح أحدهم.

"الكل بحث عنها في البيوت والبراري وعلى ضـفتي النهر، ولكن لا أثر لها وكأنها تحولت إلى نقطة ماء في بحر متلاطم الأمواج. صاح آخر وهو يبكي.

إيه.. إيه يا عريس، يا يتيم الأبوين، هل تتذكر أيام الشقاء؟ وهل تتذكر كيف جمعت من تعبك وسهرك في الليالي، وأيضا من تعب أختك، مهر العروس؟ حيث كنتما تشتغلان في الليل والنهار دون كلل أو ملل، تجمعان القرش فوق القرش، وتحرمان نفسـيكما من أشياء كثيرة كنتما بأمس الحاجة إليها والآن ضاع كل شيء، وتركت أختك الوحيدة، لمن تركتها يا مسكين؟ ها هي تفترش التراب، تلعقه، تنثره على رأسها، تنتف شعرها نتفاً عجيباً تذرف الدموع المدرارة، تطبع على وجهك البارد قبلاتها الأخيرة وتتساءل بكل عذابات الأرض:

"من هم القتلة، وبأي ذنب قتلوه؟ فهو كان مثل حمامة السلام"

لا تسمع إجابة من أحد، فتسقط مغشية عليها، وحين تفتح عينيها مرة أخرى، تبقى صامتة للحظات، تنظر من حولها وكأنها تبحث عنك بين الوجوه، ثم تنتحب من جديد وقد جف فمها من العطش الطويل:

"والله ليس لي غيره، لا أخ ولا أخت فلماذا قتلوه؟.. يا عالم يا ناس، لأي سبب قتلوه، لماذا تركوني وحيدة؟ لماذا لم يقتلوني قبله؟"

تتوقف عن النحيب وكأنها تذكرت شيئا مهماً، وبعد لحظات تهز رأسها وتقول مع الشهقات:

"حين عدنا إلى البيت، باركت زواجهما، قبلتهما ودخلت إلى غرفتي، تمددت، وقبل أن يأخذني النوم، سمعت صوت ارتطام شيء، لكني لم أخرج من غرفتي، ليتني خرجت، ليتني لم أنم، نمت ولم أشعر بشيء حتى سـمعت دقات عنيفة على الباب، وحين فتحته لم أصدق ما سمعت، هرولت إلى غرفة العروسين، فكانت مرتبة كما لو أن أحداً لم يدخلها..."

لم تستطع أن تكمل، وسقطت على الأرض مرة أخرى.

كغصن جاف تهزه الريح، كنت أسير خلف نعشك في صـباح شبه ميت، أقطع دروب التيه وخطاي تتدثر بالفوضى والهذيان، ومع كل شهقة تخرج من حنجرتي، كنت أبكي بكل لوعتي وضـعفي، وأزفك إلى عرسك الجديد بمرارة وحزن كبير بحجم الكرة الأرضية.

كنت تســـتريح على الأكتاف، وأنا أنظر إليك ولا أمّل من النظر، وفجأة رفعت رأسك، أرسلت نظراتك إلى الوجوه المنكســرة، وحين وقعت نظراتك عليّ، قلت بلهفة وكأنك قادم بعد غياب طويل:

"أين أختي وعروسي؟"

مسحت دموعي وقلت بصوت سمعه الجميع:

"ها هي أختك خلفي، إلى جانب زوجتي، وهي محاصرة بالحزن والقهر والعذاب، ها هي حافية القدمين، مبعثرة الشعر، ممزقة الثياب، وها هو الورد الأسود ينبت تحت قدميها، ورد يبكي يبكي يبكي و مليء بالأشواك، كل من يمر من فـوقه أو من جانبه، يتألم ويحزن ويمتد حزنه إلى القمر، أما عروسـك يا صاحبي فهي غائبة في المجهول، وربما هي الآن تسأل عنك وتقول أريد عريسي".

عندئذ بكيت بألم فقلت لك:

"لا تبكي أرجوك"

سقطت عليّ النظرات المستغربة، فلم أبال بها، تابعــت الحديث والرد على أسئلتك، فراحت الرؤوس تهتز بأسف:

"اتركوه يفعل ما يريد"

"كان من أعز أصدقائه"

"لم أر مثل وفائهما"

"سيجن المسكين"

ليتني أجن وأنسى كل هذه الآلام. استعدوا لمواراتك الثرى، فقلت وأنت تحترق بنار لا تعرف الانطفاء:

"لا تردموا الحفرة، اتركوها مفتوحة أرجوكم، فربما جاءت عروسي، وإذا جاءت ورأيتها، عندئذ اردموها بالإسمنت إن أردتم"

لكنهم لم ينتبهوا إليك، انهالت الرفوش على التراب، فهتفت وأنا أحس بأن كل سكاكين البلدة مغروزة في صدري:

"لن يكون إلا ما تريد يا صديقي"

اقتربت منهم، أبعدتهم بكل قوتي وصرخت بأعلى صوتي:

"ألا تسمعون؟ لا تردموا الحفرة، اتركوها مفتوحة كما يقول لكم"

"بماذا يبرطم هذا؟" صاح أحدهم بغضب تولد فجأة.

أبعدوني عنهم وعادوا إلى عملهم، حاولت أختك أن ترتمي فوقك، لكن رجلاً ظالماً وبلا قلب، أمسك بيدها وأبعدها رغما عنها.

غادر الجميع المقبرة وتركوني وحيداً مع الفجيعة والغياب، وحين لم يبق غير الصمت، سألتك بصوت ليس فيه إلا الوهن:

"قل لي يا صديقي، من هم القتلة؟"

"هم الذين يعشقون الموت بلا سبب"

بقينا ننظر إلى بعضنا البعض أنت تنظر وتهز رأسك حينا، وحيناً تغمض عينيك وأنا أنظر بحنان الأب والأم والأخ وأتحسر.

"والله العظيم سأزورك في كل الأوقات. قلت حين فاجأني صوتك:

"لا تتركني وحيداً، وكلما اشتقت إليّ تعال إلى هنا"

وحين بكيت وقبلتك، ربتّ على كتفي وقلت:

"يكفي البكاء.. اذهب الآن وابحـث عن عروسي، وإذا وجدتها قل لها أنني أريدها لأمر هام"

ولم تخبرني عن هذا الأمر الهام على الرغم من إلحاحي الشديد، فنهضت بقلب يقطر دماً، رجعت أدراجي إلى البلدة، ولم تنقطع زياراتي إليك، كنت أجلس إلى جانبك، أسـليك وتسليني في النهار أو في عتمة الليل، وفي كل مرة تسألني عن أختك فأجيب، وعن عروسك فتموت الكلمات في حنجرتي.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى