الخميس ١٣ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم محمد متبولي

عناق مع النهر

مرة أخرى أرى الشمس وهى تعانق النهر، أشم هواء العاصمة الصاخبة، ربما هواءها اكثر تلوثا من عشرات العواصم التى زرتها لكنه اكثر انعاشا وأخف ريحا على قلبى منها، وها هى تقف قدمى مرة أخرى على ارض الوطن، وطن حقيقى غير مصطنع، اوجده الخالق مع الخليقة وأخذ يتطور ضاربا بجذوره فى عمق التاريخ عبر الاف السنين، لكن هل يغفر لى ويعدنى من ابناءه بعد أن دنست ارضه مرات ومرات، رباه ماذا فعلت بنفسى، كيف سمحت لهم ان يملئوننى بتلك الافكار، تلك الكلمات التى مازالت تدوى فى أذنى( اننا مضطهدون، انها لعنة الرب التى لن تزول الا عندما نحقق ارادته ونستعيد ارضه، من سيشارك الان فى تلك الحرب المقدسة سيصبح بطلا مسجلا فى واحدة من اكبر ملاحم التاريخ)، انه حلمهم الذى فرضوه على، حلم الزعامة والنفوذ والثراء، من مهمش يحيا على أطراف المجتمع الى مناضل يدافع عن الحقوق التاريخية لشعب الله المختار فى أرض الهيكل، واخيرا عدت،عدت لارض لم اكن فيها لاعود اليها ولكن هكذا كانوا يقولون.

وبعد سفك الدماء وزهق الارواح وتشريد الابرياء، أصبح لى وطن جديد أكون فيه أحد ابطاله لا مهمشيه، وطن اعيش فيه مواطن من الدرجة الاولى لا أقل، لكن هيهات لتلك الامانى أن تتحقق، فانا فى نظرهم شرقى مواطن من الدرجة الثانية، ومع هذا صرت مزهوا بانتصارى على العزل من ابناء تلك الارض، فرحا ببطولتى وشجاعتى فى حرمانهم من ذويهم، مغيبا عما يدور حولى من حقائق، لم استرد عقلى الا مع صدور الاوامر من قائدى باطلاق النار عليه وهواسيرا مكبلا بالاغلال، بيدى قتلت صديق الصبا والشباب، قتلته لا لشئ سوى انه قرر ان يدافع عن تلك الارض التى امضينا عليها اجمل لحظات العمر.

لم استطع ان امحوالمشهد من ذاكرتى ولم يفارقنى شبحه، فى منامى ويقظتى كوابيس مفزعة، نيران وعويل يحيطون بى من كل جانب، خراب يحل كلما غافلتنى عينى وأسلمت نفسها للنوم، وفى نهاية المطاف القيت السلاح وهربت، وكأن لعنة الارض التى هجرتها قد أصابتنى وكتب على التيه والشتات.

فقدت هويتى فى وطنى الاول، وبطولتى فى الثانى، والمحكمة والمشنقة تنتظرانى فى الاثنين، ومرة أخرى اعود لنقطة الصفر لابحث عن وطن وهوية وعائلة،اتنقل من بلد الى بلد واضعا همى فى جمع المال وتأسيس عائلة وطيدة الاركان مع من وضعها القدر فى طريقى، خافيا حقيقة امرى، محاولا نسيان ما فات، متعايشا مع الشئ الوحيد الذى تبقى منه، الكوابيس والمشهد الذى لا ينسى، وفى لحظة انهار كل شئ، عرفت زوجتى وابنائى الحقيقة وانكشف امرى، لم اكن فى نظرهم مخدوعا افاق بل خائنا هرب فى وسط المعركة، رحلوا عنى، اصبحت مطاردا من الجميع، والهدف الاسمى هورأسى.

لاعود مرة اخرى الى ارض النهر، لكن بجنسية غير تلك التى خرجت بها اوالتى خرجت اليها، اذا كان الموت حتميا خارج تلك الارض والعيش محالا عليها، فثراها اولى بى، ولكن هل سيغفر لى الثرى تدنيسه ورويه بدماء ابناءه، هل سيغفر لى النهر دموع احباءه، علهم يفعلون فقد تعودوا على الرحمة والغفران لا القسوة والنكران، لتشهد ايها النهر اننى جئت من اخر بلاد العالم محملا بأثامى وخطاياى لا لشئ سوى لارتمى فى احضانك واعانقك العناق الاخير، لعلى اجد لى مستقرا فى عالم آخر اكتشف فيه من أكون.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى