السبت ٢٩ كانون الأول (ديسمبر) ٢٠٠٧
بقلم محمد البوزيدي

هروب

بدون حرية لا معنى للوجود فهي جوهره، لأن الحرية ماء يجب أن يتدفق لنحيا حياة عادية يجب أن تتجدد كل يوم، ومن لا حرية له لا شخصية له، فهي مفقودة حتى ولو وجدت في الأوهام.

الحرية طريق واعد، وجدار آمن لكل كينونة خاصة ترفض الذوبان والتحلل في الآخر.

فجأة رن الهاتف على غفلة منها.

لم تكن تعلم أن الزمن هو لحظة عودة سيد البيت من العمل، لذلك انهمكت نائمة لتستريح من عناء أيام قاتمة، كانت تحس بها مثل إحساس رجل ناعمة تمر فوق رمال صحراء قاحلة في زوال صيف حار جدا.

قفزت فجأة لتفتح الباب لطارق لم يخطر على بالها.

حين فتحت الباب، كان السيد يصيح:

 ماذا تفعلين؟؟ ألم يحن وقت الغداء؟؟؟؟

 لا يا سيدي الساعة الآن العاشرة، والغذاء موعده الثانية عشرة.......

 آه........... أين سوسن؟؟؟؟؟

 خرجت يا سيدي.

 وأين؟

 لا أدري....... وصمتت صمتا معبرا عن شيء تحاول إخفاءه.

كان السيد مصابا بنرفزة خاصة، وهو يرجع للمنزل ليتأكد أن زوجته غير موجودة فيه فعلا، فقد تلقى مكالمة هاتفية مجهولة في مقر عمله تخبره أن زوجته تخونه اللحظة مع شخص آخر..

انتظر هنيهة ليتبين الأمر، لكن المتكلم على الجانب الآخر طلب منه العودة إلى المنزل للتأكد من الخبر المفزع.
سأله عن هويته فأجابه: فاعل خير

حين كانت الهستيريا تجتاح السيد الواقف أمام فاطمة، كانت تغسل وجهها الصبوح الذي تحول عن براءته الطفولية لتقفز تجاعيدها هاربة إلى ثنايا جبهتها في غير ميعاد.

لا تدري كيف تحولت من بؤس شديد إلى شبه سعادة تغمرها وهي تلاحظ بكاء السيد الذي كان يصيح:فعلا الخبر صحيح.

سألته: أي خبر

فنهرها قائلا: اذهبي لتهيئي الغداء وانبرى في بكاء شبه طفولي

تذكرت فاطمة بكاءها منذ سنتين خلت، حينها كان يمارس عليها ساديته الحيوانية منذ وصولها للبيت كخادمة معارة تمنع عنها زيارة أهلها القاطنين بالبادية أو الاتصال بهم، تقوم بكل الأعمال في المنزل: غسيل، صابون، طهي.......

بل سمعتهم يهمسون ذات مساء أنهم يخططون لكي تصبح حقل تجارب لفحولة الابن الذي بدأت تظهر عليه مخايل المراهقة

لكن حدسها منذ الأسبوع الماضي أكد لها أن صراعا خفيا بدأ بين الزوجين فعلا، فقد زار العائلة شخص يتمتع بأناقة خاصة وسيارة فارهة، وكثرت اتصالاته الهاتفية مع سيدة البيت التي تصر على أن تخرج للحديقة لإتمام مكالمتها الهاتفية خشية تجسس الخادمة..

وفي غمرة هذه الأزمة صممت على الرحيل واستغلال أي فرصة قادمة، لذلك أعدت خطة منذ يومين، ويبدو أن اليوم هو الفضاء المناسب لتنفيذها.

لم تتردد في الأمر، فقد عاشت محنا عديدة في هذا السجن الخاص، وحرمت من كل شيء يسبغ عليها الإحساس بطفولتها الخاصة، لذلك جمعت كل ماخف وزنه وغلا ثمنه، وتزودت بنقود كانت موضوعة في أحد زوايا المنزل لتغطية مصاريف النقل إلى قريتها الصغيرة التي مازالت بالكاد تتذكر اسمها مستفيدة من مشاهدة برنامج إخباري عن بؤسها في أحد نشرات الأخبار..

في ظل هذه الأجواء مازال السيد يواصل النحيب، فكر في أخذ الهاتف لاستفسار زوجته، لكن مالجدوى؟؟ فلينتظر حتى ترجع ولو كان ذلك على حساب يومه المفترض أن يقتطع أجره.

لكن فاطمة بدا لها أن تلعب لعبة أخرى من عيار خاص. اقتربت منه، وجلست بجواره لتواسيه في ماحل به، كان يريد إخفاء تأثره ونحيبه، لكن الدموع كانت معبرة أكثر من اللازم، لاسيما أنها لم تتوهم في يوم ما أنها قد تراه على هذه الحالة
سألته بلطف يخفي تهكما:عمي، مالك تبكي؟

وتظاهرت بدورها بالبكاء أمامه حتى خرجت الدموع من مقلتيها، لكن دموع هذه اللحظة كانت بطعم آخر غير الذي اعتادت عليه، فقد أصبح الجلاد ضحية، والضحية متفرجة على الجلاد-الضحية

أبكي على همومي ومشاكل تواجهني...

ما هي؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟

تجاهل سؤالها، لكنها حاولت أن تستفسره من جديد حول الهم الخاص والمشاكل، لكنها سمعت صوت سيارة سيدة البيت وقد ولجت باب الفيلا.

وقفت، توقفت لحظة لتعلن بداية خطة التحرر من أغلال عبوديتها كخادمة منذ سنتين، وهرعت لحقيبتها الخاصة، فقد أدركت أنها ساعة الخلاص التي انتظرتها منذ سنتين...

ما إن فتح الباب حتى بدت الزوجة مذهولة لوجود الزوج.......

صاح فيها الزوج الذي تخلص من دموعه مؤقتا

 أين كنت؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟؟ قولي بصراحة أنا أعرف........

 ماذا تعرف؟

 أعرف أين كنت تتواجدين.

 ولماذا تسأل إذن؟؟؟؟؟؟ لماذا لم تلحق بي لنجلس جميعا؟؟؟؟؟؟؟؟

ارتفع الصراخ والنحيب، وبدأ تبادل الضرب والشتم

في هذه اللحظة لبست فاطمة جلابتها القديمة التي مازالت تحتفظ بها، وحملت حقيبتها، وانسلت هاربة من الضجيج الذي ارتفع في الفيلا الهادئة حين لفحها هواء بارد في الخارج صاحت: أيا حرية طالما انتظرتك منذ زمان

هربت مني وتركتني وحيدة

أقاسي غربة السجن والمنفى

يا أمي أينك لتعانقيني

وتمسحي دمعاتي المنسابة

...............................

...................................

..................................


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى