الاثنين ٧ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم نازك ضمرة

اشتعل الرأس

تخرجان من البيت حسب طلبها، أنوثة وإغراء وإغواء وحب لا تصدقه عيناك. جذابة جميلة ترتدي ملابس ثمينة تكشف الكثير من مفاتنها وخاصة صدرها الفتيّ النافر المكور، ويزيدها إغراء معرفتها كيف تظهر ثدييها بحمالات تضمهما للداخل فينتصبان للأعلى، معظم قمصانها بقبة واسعة، تعي ما يخلب لبه، وما يبهر عينيه، اختصته السماء بتلك الزوجة أو الصديقة كي تقر نفسه بها، لا يشبع من النظر لها وتأملها، بل كلما لمحها أحس أن قطعة من روحه تتطاير أشلاء، لتنزل هباء ندياً تتعطر به حين تهوي على جسدها أو تقترب منه، يغبط عينيه على التمتع بهذا الإبداع، ومهما انشغل أو تشاغل يبقى متتبعاً حركاتها متمنياً أن يبقى سابحاً في هالة لوحتها الفنية، يستشعر الإخلاص منها والتكامل والتقرب منه، بل التعلق به وبرائحة عرقه.

يظهر الرجل الطارق متوسط العمر رغبة في زيارته زيارة خاطفة، لم يعتد عليها من قبل، في طريقه لفتح الباب، يسري هواء عليل إلى صدره، زاده حباً في الحياة وتعلقاً بجمالها واستمتاعا، لمح العصفور الغريب الملون في قفصه، اشتراه قبل أسابيع قليلة، لم يعتد رؤيته من قبل في بيئتهم، مهاجر حضر للحب والتوالد، يشاهد أنثاه تنزل لتقف بمحاذاته والالتصاق به، أراد متابعة تقاربهما وتضامهما، إلا أن الطرق ازداد على الباب، منزل مزاحم مؤلف من طابقين صغيرين ، ولا يحتوي الطابق العلوي إلا على غرفة نوم واسعة ومرافق الاستحمام و صالة صغيرة لا تتسع لأكثر من أربعة أشخاص مع تلفزيون صغير. صالة صغيرة يعدها الناس ضيقة، لكنها هي عشه المفضل كل مساء ، وقبل أن تختطفه سراويل النوم، تتوالد أحلامه فيها وتختمر، وتتجلى كنوز صديقته، ولماذا حضر إلى أمريكا؟ أليس لكي يستمتع قدر استطاعته؟ ولولا تثاقله لخاط جسده وعقله وروحه بكيانها، أو لقيد وجوده ويديه ورجليه بتلك الروح الشفيفة، مطلقاً يديها وساقيها تتحرك على هواها، أسير لتلك المخلوق الساحر، عقله ومشاعره تتخلق وتتوالد كل ليلة من جديد، وكأنه يراها للمرة الأولى، أو يتحدث لها أو يلمس ذراعها ويطوق عنقها الكوكب المصقول كل ليلة.

تفتح الباب وتفسح له بالدخول، كلما شاهدته في الشارع أو أمام بيتهم الذي يجاور سكنكم ، أكبرت رزانته، ولكنك تعلم أنه شديد على أهل بيته، عربي مثلك هاجر إلى أمريكا بحثاً عما يراه ضرورياً له، يحاول حصر كل حركة من حركات بناته وأبنائه، لم تر في ذلك غضاضة أو شدة أو ضعفاً، وعلى كل حال فالأمر لا يعنيك، لأن بيئة ما تقرّ هذا النموذج من الرجال، حتى أن اختلافات البعض عن فهم معنى الحرية يشغلهم عن أهم أعمالهم.

لم تكن زوجتك وأنت تحب أن تسميها صديقتك أو حبيبتك أقل اهتماما بك، تتهادى في مشيتها ، وتكثر من انحناء ظهرها للأمام مقابل عينيك حين تناولك الشراب أو الطعام أو تتقصد حركات مزاحية، تجعل من عينيك كرتين بلوريتين خارج مقلتيك، تلتصقان على صدرها وعنقها، ولسانك يتلعثم بحثاً عن كلمة حب تبرّد الأتون الذي يصهرك، أو ربما حين تريان نفسيكما فيه، فهي كنز يعج بالغموض والعمق، تسرع نبضات قلبك، دونما حاجة لشراب مسكر، بل أخبرتك أنها تراك كالمخمور أحياناً، مثل قولها

تكاد لا تقوى على الوقوف يا حبيبي، وإذا وقفت ترنحت، أفلا تهدأ بالاً وتهنأ حالاً، فأنا قربك أوآتي إليك، ولدينا الوقت الكافي لنهنأ بجحيم هذا الحب المتوقد، وكلي غذاء روحي لخيالاتك والجنون.

لم يمض على زواجكما إلا عام وشهور قليلة، ولم ترزقا بأطفال بعد، ولكن زهرة حبكما تزداد عبقاً وتفتحاً، ويتدثر بوحها بأطراف أناملك، أو أنفك أو فمك، متوسطة الطول والوزن، ليست بدينة ولا نحيفة، مصقولة البشرة زادتها أشعة الشمس حمرة قرمزية، يخيّل إليك أن كل موقع في جسدها تم الاهتمام به من قبل أمهر أطباء التجميل، وأكفأهم خبرة في تحقيق ما تتمناه أي سيدة ثرية، وقبل أن يكمل الرجل جلوسه فطنت أن تعود للباب لتلمح العصفورين في عناق حار، ومداعبات أثرت على كفيك فتلاحمتا، وطقطقت بعض أصابعهما.

ينظر الرجل صوبك بعينه السليمة، أما عينه الأخرى الحولاء المشوشة، فربما كانت تلمح ضباباً أو ظلاماً أو غاصت في ألوان اللوحة الجميلة على الجدار، وربما تاه في أعماقها وفي الحياة، كان الرجل ممتلئاً مشدوداً، يغلب عليه القصر ولا يحب أن يظهر صلعته فيرتدي أي شيء أمريكي يستر به الشعرات القليلات على مقدمة رأسه ووسطه ، لكن رقبته كانت ثخينة وقصيرة، فتبدو رأسه أن لا رقبة تحتها. تلتصق صديقتك بك، وتتعمد النظر إليك واختطاف عينيك، والرجل الضيف يهز رأسه ولا يكترث لما يرى. بقيت صامتاً تنتظر منه أن يبدأ حديثه، ويظهر السبب الذي طلب التحدث معك عنه، ولديك الكثير ليلهيك عن كثافة اللحم المتراكم بين كتفي الضيف، وعن خديه المتورمتين دون ارتخاء، ولما لاحظ الرجل اهتمام مزاحم بزوجته، ومشاغلتها له اضطر لبدء حديثه

لا شك تعلم يا جارنا مزاحم أننا نحب الحياة الهادئة، ونتمنى الخير لكل الناس، وأنت منهم طبعاً، وبرغم صعوبة تراثنا ومتطلبات التقاليد، إلا أن التقيد بها مريح للحاضر وللمستقبل، خرجت من منزلنا قبل أيام قليلة، لمحتها تقف بالباب، ألقيت التحية على زوجتك، كتمت بسمة ودعتني لشرب فنجان قهوة، شاهدت الباب يزداد انفتاحاً وهي تدعوني، لم تتحدث بكلمات كثيرة، وقبل مرور دقيقتين كان فنجان القهوة أمامي، ثم عادت وأحضرت كأساً من الماء وقطعة من الكعك الدسم، جلست أمامي وغرفة الجلوس في منزلكم ليست واسعة، كانت ما تزال صامتة، ولكنني حين تأملتها احترت في الأمر، أربكتني ظنوني، واعترتني هموم لم أعهد مثلها من قبل، امتدت يدي لتناول فنجان، ويبدو أن أصابعي انحرفت عن موقعه، فانقلب على المنضدة الصغيرة أمامي، وأتيت للاعتذار لك عن تحرجي وانقلاب القهوة، ابتسمت زوجتك ولم تتكلم لكنها التفتت إلى عيني الضعيفة، وتوقفت عندها لثوان، بعدها فطنت للموقف، حملت الفنجان لتحضر لي بدلاً منه، داهمتني حمى الحياء والخجل، ثم تلتهارجفات برد وحيرة لم أقو على احتمالها، قالت سأجهز لك فنجاناً آخر جديداً، وقبل إتمام جملتها كنت أقفل الباب خلفي خارجاً للشارع. محرجاً من خطأي من اندلاق القهوة الحارة، يحاول مزاحم أن يقرأ نتاج حديث الرجل الأحول على ملامح صديقته التي لا تفهم اللغة التي يتحدثان بها، يبحث مزاحم عن صديقته، لكنه لم يشاهدها بل سمع قرع حذائيها الموسيقي تصعد السلم صوب الطابق الثاني للبيت.

 أين ذهبت يا قارعة الأجراس، ومهيجة الإحساس؟

  لا أستطيع الابتعاد كثيراً عنك، لاح لي ثمر ضار وشديد المرارة يهوي في سيل نتن الرائحة، كنت على وشك إغفاءة فاستفقت، أردت غسل آذاني وعينيّ، سأحمي روحك من كل مكروه، سأحلق بها يا مزاحم فوق درب التبانة، بعدها سأترك لك الحرية لتحملنا أي اتجاه ولو نأيت، حتى تجف الغيمات من أمواهها.

يغادر الرجل الضيف المنزل أثناء حديث الزوجة لمزاحم، وقبل أن تمتد يده لتوقف التلفاز، لمح فقرة دعاية لملابس سباحة على بركة مزخرفة كلون الملاءة على السرير في غرفة نومهما. فيبادر شقراءه المدللة

  ألا تفكرين بتناول عشاء خفيف في مكان تحبينه خارج البيت؟

لكنه أحسّ نثيث عطر ينهمر رخياً على فتات روحه المتطايرة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى