الجمعة ١١ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم أحمد خالد توفيق

ليس حسدًا

ليس من المعتاد أن يقدم كاتب قصصي مجموعة قصصية لكاتب قصصي آخر، وإنما الأقرب للعرف أن يقدمها ناقد أدبي، غير أنني أعتبر (أحمد صبري غباشي) بمثابة ابن لي لا أقدر على رفض طلب له. وهذا لا يعني قطعًا أن هذه (الأبوة) أثرت على رأيي في هذه المجموعة القصصية، فهناك أعمال أدبية لأبناء أعزاء آخرين، لكني لا أجد القدرة على استكمالها ولا يمكن أن تقنعني قوة على وجه الأرض بكتابة مقدمة لها. فقط أبتسم وأقول متظاهرًا بالحكمة: "دعنا نر العمل التالي لك .. ". لكني مع أحمد وجدت نفسي أنهي المجموعة بسرعة البرق ثم أعيد قراءتها مرتين. إخراج القصص وعناوينها احترافي للغاية حتى أنه بوسعك أن تنسى كاتبها وتشعر بأنك تقرأ مجموعة قصصية لأديب راسخ من الستينات. كل قصة تحوي مغامرة تجريبية ما حتى تشعر بأنه ينهي القصة وقد خارت قواه تمامًا. من السهل والممتع على المرء أن يكون قاسيًا وأن يتصيد الأخطاء على غرار (لماذا نادمًا خرج القط ، وليس خرج القط نادمًا ؟.. إن هذا تحذلق .. الخ).. لكن من الصعب أن تتجرد وأن تنظر لهذه المجموعة كما هي فعلاً: مجموعة من القصص الممتعة المهمومة بالبشر ولا يكف صاحبها عن التجريب.

أحمد صبري لا يخفي إعجابه الشديد بيوسف إدريس، وفي هذا أجد أنه وضع إعجابه في المكان الصحيح تمامًا. ومن الغريب أنني ما زلت مصرًا على أنه يشبه يوسف إدريس في شبابه فعلاً حتى على مستوى ملامح الوجه. هل تأثر به حتى صار يشبهه أم تأثر به لأنه يشبهه ؟.. لا أعرف حقًا.

إن هذا الأديب الشاب يلعب بعدة أوراق رابحة لا شك فيها: الورقة الأولى هي حبه الشديد للأدب والكلمة المكتوبة. هذا الحب أوشك أن يصير هاجسًا وقد أقلقني عليه في فترة من الفترات. تأمل عنوان المجموعة (نادمًا خرج القط).. هذه التركيبة اللغوية التي تضع الحال في بداية الكلام، مع الغموض المتعمد في المعنى. إنها تحمل تلك الرائحة التي لا توصف ولا يمكن التعبير عنها بكلمات والتي تجعل الأدب يختلف عن كلام الصحف والمحاورات اليومية. الورقة الثانية هي سنه الصغيرة جدًا والتي تثير ذهول كل من يقرأ عملاً من أعماله. إن في انتظاره رصيدًا هائلاً من الأعوام والخبرات والوجوه التي سيقابلها.. سوف يصطدم بكثيرين ويحب كثيرين، ويسافر لأماكن لم نرها ويقرأ كتبًا لم نسمع عنها. هذا يعني أن الحكم عليه لم يكتمل بعد. الورقة الثالثة هي كمية هائلة من الأدينوسين ثلاثي الفوسفات في خلاياه .. أي أنه يملك الكثير من الحماس والاندفاع والطاقة وهي طاقة قادرة على تحريك الجبال لو خرجت كاملة. يبدو أنني أردد مقاطع كاملة من قصيدة (حسد) للشاعر السوفييتي العظيم (إيفتوشنكو)، لكني أحاول أن أضعك في الصورة لا أكثر.

في هذه المجموعة يلعب أحمد على السلم الموسيقي من أوله إلى آخره .. هناك خواطر منتحر في (وداعًا) وهناك مصير الرجل المتحضر في مجتمع غوغائي بطبعه.. ذلك الرجل الذي سوف ينتظر إلى الأبد في قصة (متحضر).. هناك اللعبة العبثية السيزيفية في (مسرح كبير)، وهناك الرعب الميتافيزيقي الذي أثار رجفتي أنا نفسي في (نادمًا خرج القط)، وهناك الجو الأسطوري الملحمي في (زنوبيا)، وهناك القصة القصيرة المدرسية محكمة التكوين مثل (أبيع الملابس). بل إن هناك قصة بدأتها أنا على سبيل المسابقة هي (يوم خاص) وتركتها مفتوحة على سبيل التحدي الصعب الذي لا أعرف أنا نفسي كيف استكمله، لكنه استكملها لتكون قصة جيدة جدًا. عامة سوف نجد أن الحياة تثير حيرة أحمد ورعبه.. أبطاله غرباء متفردون يعانون وحدة قاتلة وسط مجتمع لا يمكن فهمه ولغز كوني مفجع.

برغم صغر سنه فإن قراءاته العديدة منحته عمق تجربة لا بأس به، ولسوف تتدخل السنون لتعميق هذه التجربة أكثر فأكثر. أقول هذا وأعرف أن اسمه سيسطع بقوة في الحياة الأدبية بعد أعوام. لم أطلق هذه النبوءة من قبل إلا مع اثنين هما أحمد العايدي – ونجاحه لا يحتاج إلى كلمات - وأحمد عبد المولى الذي اختفى تمامًا فلا أعرف أرضًا له، والذنب ذنبه طبعًا وليس ذنب نبوءتي !

أرجو أن يبرهن أحمد صبري بعد أعوام على أنني بعيد النظر، وأن يحفظ ماء وجهي أمام من يقرءون هذه السطور الآن، وهو قادر على ذلك بالتأكيد !


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى