السبت ١٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
في ديوان (الغريب وأنا)
بقلم مرام إسلامبولي

الشاعر ماهر رجا شاعرٌ شتائي

شاعر يملك مخيلة السحرة، كل قصيدة هي اكتشاف شعري جديد وسر من أسرار الحزن الملون. ظلالٌ للكلمات وظلال للظلال تمتد ملونة في مشهدية شعرية تتألق بأبهى ما يكونه الشعر.

مشهديةٌ يتناوب على تشكيلها كل من الحكاية والرمزية، الهمس الخفي والوجع الصارخ، التطريز اللغوي والتشكيل البصري الرحب ..

لنكون حقاً أمام بناء فني مميز يؤكد على عمارة فنية شعرية مميزة ومختلفة.

لغة حية وأرض شعرية جديدة وخصبة... الأرض التي تشبهه والتي لم يطؤها أحد من قبله، يذهب إليها بحقائبه المحملة بغربة الغرباء ..بالصور والمطر .. وبإشاراتٍ للغائب . في حقائبه ستعثر على النهايات وتكتشف مخابئ سريةً للهواء...

يقدم الشاعر لديوانه بقول السهروردي: (الواجد يشعر بسابقة فَقْد؛ فمن لم يفقد لم يجد)، وبكل ما أوتي من حقيقة يكتب الشاعر ماهر رجا وجدَه، يكتب الوجع الفلسطيني والوجع الإنساني، ليأخذنا إلى المطارح النادرة التي يلتقي فيها الصدق في الكتابة مع المستوى الفني الرفيع .

يفرد الشاعر جزءً في الديوان يسميه (الغرباء)، الغرباء الذين يغنيهم الشاعر يصلون إلى قريته دون أن يحملوا رسائل له، ولهذا فهويبحث عن قافلات الذين يمرون كل عام كي ينتشلوه من الصمت.

وفي ( الغرباء) يغني الشاعر ذكريات أمه الغريبة في وقوف القرى الذاهلات، أمه الفلسطينية الغائبة التي حرسته من الساحرات وسقته حواس التعثر بالأزرق الأبدي، يهديها قصائد ديوانه وهولا يراها الآن في ضريحها العجوز بل يراها هناك ..وحدها تمشي على حافة الضوء في أرضها حيث تبقى الحياة .

لأمي العجوزِ التي أخفقت في الرجوع إلى أهلها
هنالك بيتٌ وراء التلال على سنبلاتٍ ثلاث
وشمسٌ تنام كقطٍّ أليفٍ
على حافة البئر قبل الزَّوالِ
وتعرفها قصةُ الماءِ .. كانت تقولُ
لهُ في الصَّباح ِ : صباح الحياة ِ
وتلمس ُ خابيةً جرحتها الفراشةُ ليلاً ...
 
(من قصيدة : أمي الغريبة)

وفي قصيدته (الغريب وأنا) التي منحت الديوان عنوانه يحاور الشاعر ذاتاً أخرى تسكنه، يحاور ذاك الغريب الذي يدعوه للذهاب نحوالأزرق مثله، كي لا يبقيا محبوسين معاً مع الخوف في جسد لا يعرف كيف يطير بهما.

منذ زمان ٍ
ثمةَ آخرُ أغربُ مني
يسكنُ أرضَ أناي ْ
يخرج من جسدي ليراني
يقبل حتى يصبح أبعدَ
يذهبُ كي أبصره أقربَ
بين ضباب العين وبيني
ويعاتبني حين أكونُ "أنا"
الآمنَ والمكسُوَّ بريش الهدأة ِ
في أوقات هروب الكوكبِ
من أفلاك رؤايْ ..
 
(من قصيدة: الغريب وأنا)

ربما قد أفرد الشاعر للغرباء جزءً من ديوانه، لكنهم يتسللون من مخيلته وذاكرته وروحه ومن بين أصابعه لينتشروا في كافة قصائد الديوان. فنصغي فيها دائماً لأغنيات رحيلهم ووجودهم.

في جعبة الشاعر صور أيضاً، فنرى في الجزء المسمى (صور) صورةً لقريته الكرملية (إجزم) تلك الصورة التي صدمه أنها لا تشبه ما نسجه في خياله طوال عقود، فيختار أن يبدل ذاكرته كي يتعرف إليها من جديد ويرتبها بيتاً فبيتاً في احتمالاته الغريبة .

في (صور) نرى صورة لزائر غريب يطرق بابه الصباحي هوالفتى الشهيد يدخل مسترسلا بالتحية، زائر ذاهل يراه كل يوم على شارعه صورةً حتى يسميه (صديقي الصورة).

وبين تاريخين نرى أولاً صورة تحمل التاريخ 1951 لأبيه الغائب بقامته الشقراء وهوواقف كالساحر في صندوق وقت، حيث غرفة الصورة بيضاء وفيها شبحان.

أما في الصورة التي تحمل التاريخ 1960 ففيها وبالأبيض والأسود نرى المشهد التالي:

بالأبيض والأسودْ
في ساحة باصات البلدة ِ ..
في الصورة ِ ظلٌ وأبي
قربهما أمي واقفةٌ
بالثوبِ المرتبكِ المجهدْ
وهناك تفاجئهما رمشةُ زرِّ التصوير ِ
فلا تتمكنُ أن تخفي سنبلة ً
تتسلق دهشتها الريفية
 
(من قصيدة :أبيض وأسود 1960)

الشاعر ماهر رجا شاعر شتائي بامتياز، ينسج صوره بأجواء شتائية دافئة دفء الحزن. يبرهن على ذلك في الجزء المسمى (مطر) حيث يهدينا مظلات تسير على مهلها كقباب حائرات...ويسمعنا نحيب أمطار آذار التي تحزنه وتعبث بالسنونو المبلل في السور..

في قصائد هذا الجزء يحملنا الشاعر إلى كوخ شتائي بعيد، نجلس فيه كالأطفال لنستمع إلى الحكايا المسحورة.

لا نراهمْ، ولا يعرفون متى
سنغادرُ أويرحلونْ
كُلَّما جاءَ هذا الشِّتاءُ الطويلُ
يسيرونَ في الرُّدهاتِ على رسلهمْ
كرياحِ خريف صباحيةٍ
لونُها المتشققُ يجلسُ قُربيْ
وأجلسُ قربَ الغُبَارِ
نحدِّقُ في شُّرُفاتِ النِّسَاءِ اللّواتي
ذهبْنَ قديماً معَ الغُرباءْ...
 
(من قصيدة : الأطياف)

الوجع الفلسطيني نراه متوهجاً في جزئين من أجزاء الديوان هما: (إشارات الغائب) و(مخابئ الهواء)، بأسلوب هوأبعد ما يكون عن التقليدية التي اعتادتها بعض الأشكال الشعرية في مقاربة هذه القضايا.

عندما استشهدوا
كلُّهم هبطوا من مَمَرِّ الحياةِ معاً
فخورين مثل انهمار مياه الشواهق ِ
فوق الصخور
ومثل التقاء الحمائمِ في حزمات الرَّفرفات
لتهوي كرمحٍ من الريشِ
في سطح بيت الجناح الأخيرْ
وكان الغروبُ يراقبهم هامساً :
أتراهم يميلون حقاً إلى الأرضِ
أم أن أرضاً إليهم تطيرُ ؟!
 
(من قصيدة : في غرابتهم .. وحدهم)

وتحت العنوان الكبير لهذا الوجع نجد الشاعر قد أراد أن يكتشف وجعه بالشعر وبتلمس الذاكرة التي يحملها، فتأتي قصائده اكتشافات إنسانية وشعرية في آنٍ واحد،كذلك الاكتشاف الذي ترويه قصيدة (مخابئ الهواء).

ومرَّ آخر الأسراب ِ فوقنا
فقالَ لي:
سيستريحُ طائرٌ على القرميد ِ كي يشبهني
وقد يجفُّ في انتظاري ههنا
وقد يرقُّ حتى الموت ِ، من تأمل ِ الغيابْ
لكنْ، أتستطيع أن ترى
في هذه الأسراب ِ ما أرى :
لن يعثر َ الغزاةُ في بلادنا
على مخابئ الهواء في الهضابْ !
 
(من قصيدة : مخابئ الهواء)

يتأمل الشاعر في بعض قصائده ماهية الحياة ويقف ذاهلاً أمام سر الموت العظيم .

يقول الغريبُ: أنا من يصدقُ
أنك موتٌ عصيٌ على الموت ِ
موتٌ بلا ما يميتُكَ كالآدميِّ
ففيكَ المؤجلُ عنكَ
يقيمُ قبور سواكَ وتبقى قَصيّا .
 
(من قصيدة : من أنا .. من أنت)

ويرى أن الشهيد يرتقي بالموت إلى ما هوأبعد بكثير من فكرته.

إني أراك عبوري إلى ما يفوق رؤاك
ستحتاج موتاً غزيرا لتحيا
 
(من قصيدة : من أنا .. من أنت)

لكنه ينادي الموت بأن يتأخر قليلاً علينا وعلى من نحب كي تصبح المدائن أجمل، وكي لا نراه أونرى لمحات اصفراره فوق الجدار وفوق الوسائد. أن يتأخر إلى أن تتعلم أرواحنا أن تطير وينبت ريشٌ لأجنحة الشهقات الأخيرة .

ألا أيها الموتُ
تأخَّرْ قليلاً !
تأخرْ مسافةَ حلم ٍ
لنحرسَ أوهامنا من شفافية الليل ِ
ومن خيل أعدائنا
وانتظرْ، فهناك غناءٌ أخيرٌ تناهى
إلى غابة ِ السَّروِ
 
(من قصيدة : تأخر قليلاً)

وفي المقابل هي الحياة ملونةٌ بألوان أحلامنا ورؤانا .

زرقاءُ مثلُ منام ِ نهر ٍ أنت أيتها الحياةْ
زرقاءُ مثلُ تودد القمر الخُرافي الصغير ِ
إلى بيوت ٍ في الجبال
بيضاء مثل سريرة الصوفي
 
(من قصيدة : هي الحياة)

في الجزء المسمى (النهايات) تجربة إنسانية عميقة وأنفاس شعرية يملؤها الشجن .

فيه نزول إلى الغياب مع خازن الموتى ورحيل مع قوافل يشبه مشيها همس قلب الشاعر ونداء للطوارق كي يأخذوه في السفر المجهول معهم .

في النهايات صوت ناي بعيد حزين كتساقط صوت الخريف، وعلى سور أمس حلم بالعودة..وماض رمادي ينادي امرأة كي تأتي، فيها أرواح وذكريات ضائعة كالسفن الغريقة، فيها أشياء موحشة وإشارات في الحياة يمكن أن تصبح أجمل .

مقتطفات من قصائد هذا الجزء:

ألنْ تأتيْ
أنا وحديْ،
كحراس القلاع ِ
السورُ يمضغُ في الصدى خطواتُهم
والرُّمحُ أعلى من نسيم ٍ معتم ٍ في السهل
 
ألن تأتي
أنا وحدي
كقافلة الهنود الحمر
وراءَ الشاهقِ الصخري يرمق مشيَها قمرٌ
نحاسيٌ كوجه الذئب
قد قام القدامى أمس في الغاباتِ
عادَ حصانُ من بعثوه كي يأتي بغصن الشمسِ
فكَّت أجمل الفتيات تعويذاتها في النهر
حين هوى محاربها
كصوت الطائر البريِّ في الأعلى
وقد شهقت أكفُّ الصَّخر.
 
(من قصيدة : لوتأتين)
 
تقفُ القافلةْ..
لا تنمْ عندما يهجعونْ
فالقوافل تنسى الذين ينامون
مستأنسين بحراسها
لا تحدق إلى امرأة ٍ في الطريق
لكي لا تصير لها
لا تقل للمسافر قربكَ : خذْ وحدتي
كي أطيرَ واخسرَها.
 
(من قصيدة : قافلة)
 
صوتُ نايٍ بعيدٍ.. بعيدْ
كعواءٍ في البراري
لاحَ كالوشم ِ على ضفةِ النهرِ
وقد سار وحيداً
مثل حزن تائه تحت المساءْ
كان في المشهد أشجارٌ على الماء
ونارٌ وحدها دون خيام
غابةٌ بيضاءُ تمشي
كسريرٍ قمري
أخذت تنحدر الآن إلى الوادي
وفي صمتٍ ستصغي
 
(من قصيدة : ناي)

ديوان (الغريب وأنا ) للشاعر ماهر رجا. صدر حديثاً عن دار الشجرة في دمشق/ تشرين الثانى - نوفمبر 2007


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى