الخميس ١ تموز (يوليو) ٢٠٠٤
بقلم عبد الباقي يوسف

الجسد المنهك

قصة قصيرة

لحظات تحرك حجم الحافلة تجاه القرية، انقذف رجل بجسده المنهك وكأنه يحمل على ظهره جبلاً، بدا التشتت صارخاً على سحنته، وحرارة الصيف تزيده قلقاً. سعى بينه وبين نفسه إلى لملمة ولو جزء من تيه الشتات، لكن ذلك زاد في أزمته النفسية الحادة التي يشتعل فيها، وفي لحظات بدت الحقيبة التي يحملها بيده اليمنى تشكل عبئاً على كاهله رغم أهمية ما فيها.

أجال بنظرات سريعة في المقاعد المكتظة وسط حدقات القاعدين بأمان وسكينة في مجالسهم وقد صوبوها إليه بذهول، فراوده إحساس بأنه اندس في مكان حشواً، وهو كائن لا يلزم في موضع ليس له موطئ قدم فيه، فتلبسته حالة هائلة من غربة، وتمنى لو يقف الباص فينزل وإن واصل السير سبعة أيام على قدميه ليصل البيت.

أراد أن يصرخ في الناظرين بدهشة إليه: أنا لم أهرب من مطاردة، لكنني رميت بجسدي في هذا الباص الذي لا مكان لي فيه اتقاء من شدة الحرارة.

بعد نصف ساعة من تحرك الحافلة ارتمى نصف رمية على جزء صغير من مقعد بحجم كف مسبباً حالة من الضيق للراكبَين القاعدَين في مقعديهما باستقرار،ولما علم تسببه في قلق الرجلين الذين استاءا من تصرفه العشوائي المستغل لفسحة صغيرة من مقعديهما لذي هو على هيئة مقعد واحد محجوز، وجه إليهما نظرة توسلية كي يتركاه في هذا الركن الساند لإنهاكه الشديد، موحياً لهما بأن ذلك بمثابة إسعاف لإخراجه من حالة الإنهاك المدمرة التي ركبته ولا يجد فكاكاً منها. فأوحيا له دون صوت أن يلبث جالساً دون حراك ، عندئذ انطلقت منه زفرة عميقة كأنها سحبت من أعماقه حريقاً، وأخذ يسترد شيئاً من هدوء أعصابه وجسده معاً، وفي هذا الوقت الذي أحس فيه باستسلام لغفوة استرخائية تناهى إلى مسمعه صوت ابنته: بابا، لا تنس أن تجلب لي من المدينة كتاب قراءة.

مد أصابعه إلى أحشاء الحقيبة الجلدية السوداء وهو مغمض العينين، تلمس الكتاب المستقر في ظلمة الحقيبة، سرت في حناياه رعشة اطمئنان زادته سكينة. وقبل أن تغطيه الغفوة بسكينتها، تناهى إلى مسمعه صوت ابنته الثانية: بابا لا تنس أن تجلب لي معك من المدينة كتاب ديانة.

فعادت أنامله مرة أخرى تتلمس أحشاء الحقيبة حتى استقرت على الكتاب الثاني فازداد طمأنينة والباص يمضي تحت جسده كأرجوحة. والراحة تنتشر في أنحاء أعضائه وروحه وكأنه لم يكن ذاك الرجل الذي كاد الاضطراب أن يأكله قبل حين، عندئذ تناهى إلى مسمعه صوت ابنه: بابا وأنت ذاهب إلى المدينة لا تنس أن تجلب لي معك خارطة الوطن.

امتدت أصابعه مرة ثالثة بمزيد من الطمأنينة إلى جوف الحقيبة فلمست الخارطة وخرجت بالطمأنينة التي ولجت فيها.

وفي هنيهات معدودة استسلم الرجل لغفوة مباغتة وكأنه في فراشه، لم يكن يحس بغفوته المستكينة لولا نداء الجابي الذي أيقظه ليسدد أجرة ما هو فيه من نعيم، ففتح عينيه كمن جُرَّ جراً من رقاد عميق، ومد يده إلى الحقيبة لينقذ الجابي أجر الركوب، وبغتة هب منتصباً كالملدوغ وقد اكتشف أن الحقيبة ليست على ركبتيه.

صرخ بالراكبين وبجميع من في الحافلة فعادت الأنظار تتصوب إليه كما كانت أول مرة، وتعالت أصوات لإنزاله من الحافلة، فهو منذ ركوبه ما كان طبيعياً، عندها أدرك أن السائق سينزله بالقوة فيما لو تمادى في صراخه.

نادت امرأة بأنها قد تبرعت بأجرته على أن يصمت ولا يفسد على الركاب استئناسهم في الرحلة، فعاد يبرك في مجلسه الذي لا يكاد يتسع لدجاجة، مسبباً الضيق للراكبين مرة أخرى وهو يهمهم في نفسه ويسعى لإقناعها بأنه لم يكن يحمل حقيبة لحظة صعوده وأن ذلك كله كان ومضاً في غفوة.

قصة قصيرة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى