الثلاثاء ٢٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم أحمد نور الدين

هل أبيعها؟

عندما عدت في المساء إلى الدار، كادت ظلمة الحوش تبتلع جسدي النحيل. وكدت استحيل نفسا من الكآبة الخالصة، تهيم مع أشباحه. لكنني قطعت الحوش وسط الظلام والأشجار الصامتة.

ودخلت الدار. وزادت قتامة جوها من كآبتي. فزفرت زفرة لم يسمعها أحد. لأنه ليس ثمة أحد في الدار الخالية. ثم سحبت خطواتي بعد أن تناولت عشاء ممزوجا بطعم التعاسة والوحشة، إلى غرفة نومي. بيد أنني لم أدخل الغرفة بغرض النوم، فبيني وبين النوم ملاحم تشهد لها مخدتي وغطائي البالي. لكن عفريت القراءة انتبه في داخلي وأنهضته اليقظة. وجلست على السرير متربعا، بين يدي كتاب. ورحت أقرأ على ضوء عليل متذبذب أسعفتني به شمعة على الخوان القريب. وفي لحظة ما قطعت القراءة ورفعت رأسي عن الكتاب، فنظرت إلى الخزانة الكبيرة المواجهة للسرير حيث اجلس. كانت قد التمعت في ذهني فكرة خاطفة.

وكررت السؤال بصوت مسموع: ما حاجتي بهذه الخزانة القديمة؟! وبمثل سرعة التماع الفكرة استقر في ذهني القرار ببيع الخزانة! أجل سأبيعها، فهي قابعة هنا منذ أجيال فما أفادت منها الأسرة؟ جدي مات فبقيت بعض الأغراض في ركن منها وكذلك رحل ابي مخلفا في ركن بعض الثياب والكراكيب. أما أنا وريث الملك فلا أملك الكثير من الملابس. ولست أحتاج إلى خزانة في كبر وعملقة هذه! إنها قديمة ويعرف تجار الاثاث قيمتها.

ورغم المكر والدهاء الذي يميز تاجر الاثاث الذي سأقصده، الا أنني أظل قادرا على انتزاع ثمن معتبر منه لهذه القطعة الأثرية الفخمة! وفكرت في شراء صوان صغير احله محل الخزانة أضع فيه ملابسي القليلة. وفكرت في السعر الذي ستحققه الخزانة وبالبحبوحة التي ستغمرني بفضلها! لقد تاقت نفسي إلى اللحم الأحمر الخالص بعد أن عافت المجدرات على أنواعها واليخنات على صنوفها. ولقد راودتني في أحلامي موائد عامرة بصنوف من اللحوم ما رأتها عيناي في حياتي كلها، ومرات كثيرة كنت أصحو على حسرة وشهوة حارقة، فأتجه إلى المطبخ في حالة من الصحو والاغفاء، لكن تصفعني ظلمة المطبخ وتلفحني برودته فأقنع حسيرا برغيف من الخبز الجاف أبل فتاته بالطحينة وازدرد اللقمة بمشقة، وتعلق في حلقي فتزيد من حنقي وتشعل نار حقدي ونقمتي.. لكن كما لي الله عونا ومؤنسا، فلي ليل طويل ووحشة متواصلة. وما الكتاب الا وجه من وجوه هذه الوحشة المتلفعة بغلاف والمتخفية خلف صفحات صفراء. ولما صحوت في تلك الليلة وكانت الشمعة قد ماتت، نهضت وتحسست سبيلي في الظلام الثقيل، وأشعر جفافا في حلقي، وفي المطبخ ارتطم فخذي بطرف الطاولة فوخزني الألم وارتفع صوت الطاولة في احتكاكها مع ارضية المطبخ الخشنة. وشربت الماء بنهم شديد ثم زفرت زفرة طويلة وشكرت الله. ثم عدت ادراجي إلى مخدعي وارتميت في السرير.

وقد تملكني شيطان القلق واسترجعت في خوف ذكرى الرؤيا المزعجة التي اقتحمت علي نومي حيث رأيت جدي في عباءة سوداء تلفه من عنقه إلى اسفل قدميه، وبدا غاضبا حانقا، وعنفني بكلام قاس وحذرني من بيع الخزانة أن تغادرني البركة وتنزل بي الاهوال والخطوب، وقد غادرني جدي في زوبعة من الغبار والبرق المتعارك وهو لا يزال يلهج بكلمات غاضبة كالنار الحارقة، واختفى جدي وتلاشى رسمه وتبددت اصداء الزوبعة التي احدثها، لأصحو على خفقات قلبي العنيفة. وتساءلت وأنا منطو على نفسي في السرير..

ما هذا بحق السماء التي تعيش فيها الآن يا جدي؟ ولف قلبي نوع من الخوف من ظهور اخر لجدي عندما يعاودني النوم فأجفلت في قلق وخوف. ونظرت صوب الخزانة بجزع وحذر فخيل الي انني ارى صورة جدي منطبعة على صفحتها تشع شعاعا ضئيلا فغار قلبي في صدري وتملكتني رجفة شاملة، وحاولت أن أبسمل فما أسعفني لساني. ومضى الليل في رعب وتخبط وهذيان، ولم أصح على الدنيا الا والصبح قد بذغ وتيقظ. وطرق رأسي السؤال وأنا أمام المغسلة.. هل أبيع الخزانة؟!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى