الثلاثاء ٢٢ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بحث نظري في أرشيف الوجدان الضائع لسيدي علي الشاوي
بقلم شعيب حليفي

قابس..آخر الملائكة

لم يعد أمام الفجر من خيار، أو من حقيقة أخرى، غير الارتماء في أحضان ألفته الخالدة، احتماء بها من ثقل الظلام وفداحة البرودة القاسية وقد طوحت بي بعيدا، حيث صوتي لم يعد صوتي، بل شريانا من دمي، أكلم به نفسي فيخدش صمتي لتطلع منه أبخرة حارة، لو قشرتها لوجدت دمي الضائع مند قرون.هكذا رأيت الأشياء وعشتها في وصولي الأخير إلى مدينة قابس بتونس، متأخرا وقد لف الظلام لفاته بإتقان على رأسه، متدثرا بأمطار دسمبر.

رأيت كل شئ ينمو ويعلو في قابس ذات الأبراج النورانية، لا يراها ولا يطلع إليها غير الطهرانيين ممن آمنوا بالفجر والمطر..مثلي بالتأكيد، فأنا أشعر بكوني آخر عشاق الفجر الملفوف في المطر.

قلت في نفسي ما نسيته قبل تذكره، وكنت وحدي دونما شعور بذلك، ولكني أشرت لنفسي بأن أهتم لكل ما سيأتي.فقد اجتمعنا، ونحن بقابس، في ملتقى مغاربي للبحث والتناظر حول ثلاثة أيام ضائعة في رحلة سيدي علي الشاوي إلى قابس سنة 1781 أي قبل قرنين وعقدين وسنتين وسنتين وسنتين، لا أحد يعرف عنها شيئا، حتى أن جميع مؤرخي البلاد التونسية والمغربية، ومؤرخ الشاوية ومرافق سيدي علي وكاتبه الشيخ الهبطي،أسقط تلك الأيام وسكت عنها سكوتا مريبا، ولم تفضحه غير جملة مرمية في سياق عابر يقول فيها: وبالبلاد التونسية قبل دخول البلاد الجزائرية سيقبس نور شاخد بقلب سيدي علي ويهز وجدانه هزا لم يفق منه ثلاثة أيام قابسيات خالدات.

وفي إشارة متأخرة ذكر أنه سيعود، في كتابه الذي خصه للوقائع والأخبار ولم يستدل على وجوده أبدا حتى الآن، إلى الحديث عن سحر القبس الذي ألهم الشاوي.

(علي الشاوي، جدي الأكبر الذي حكم الشاوية لثلاثة عقود منذ 1768 إلى أن قتل غدرا.أما الشيخ الهبطي، فهو فقيه ومؤرخ واليد الروحانية اليمنى للشاوي.وهو من أنقذ السلالة من الموت بعد الواقعة، بفراره، رفقة عائلة سيدي علي، متخفيا....).

ورقة عمل بريئة

( يجمع المؤرخون على أن مدينة قابس أسسها الفينيقيون ثم ورثها عنهم القرطاجيون في القرن الثاني ق.م.وفي الحرب البونيقية الثانية ستصبح تابعة لروما وعرفت باسم تاكابي وقد ذكرها أبوليوس في أعماله.
بنيت على سواحل الخليج القابسي ( بحيرة تريتون كما يسميها هيرودوت). وقد تمتعت بدستور المعمرة واستفاد سكانها بحقوق المواطنة الرومانية، وثبت أيضا أن المدينة كانت في عهد الرومان وقبله مركزا من أهم المراكز الاقتصادية لجودة مناخها وموقعها الجغرافي.
فتح المسلمون قابس بين 654 و660 م وألحقت في العهد الإسلامي الأول بالقيروان واعتبرت في العهد الأغلبي المنطقة الثانية في الأهمية بعد القيروان بفضل إنتاجها الزراعي والصناعي وخيراتها المصدرة شرقا وغربا،بالإضافة إلى امتدادها العمراني.
بلغت قابس في العهد الصنهاجي 972 م- 1097 م قمة ازدهارها وخاصة في عهد المعز بن باديس. ثم تراجعت مع قدوم الهلاليين إلى أن استرجعها تميم بن المعز صاحب المهدية.

استقل بها بنو جامع سنة 1097 م وبنوا بها عدة معالم عمرانية ضخمة مثل قصر العروسين وجعلوا من بلاطهم ناديا للشعراء والعلماء والكتاب ثم خضعت إلى حكم الموحدين بين 1160 و1228 م وتلاهم عهد بني مكي (1228م -1349 م ). وستسترجع المدينة استقرارها بصفتها ولاية حفصية (1394 م-1535م)

ومع دخول الحماية الفرنسية إلى البلاد التونسية سنة 1881أصبحت قابس موقعا عسكريا إلى أن احتلها الألمان في سنة 1940 وبعد ثلاث سنوات ستدمر بصفة شبه تامة ويعاد بناؤها مع نهاية الحرب العالمية الثانية.)

جئت من أجل البحث في تخمينات ضائعة لجدي الأكبر ومؤسس المدنية الحديثة بالشاوية والمغرب الأقصى، وقد رافقني أربعة من نفائس الأصدقاء:عمي المعاشي، عبدو الفيلالي، الحبيب ع.س.ربي،سعيد الراقي.
كنا خمسة من الأقصى، وجاء من كل البلاد التونسية عدد كبير من العلماء والباحثين والمتتبعين يشاركوننا هذا البحث ويعربون لنا عن حبهم لجدنا.

لم يكن أي منا يحمل فكرة عما كان ووقع في الأيام الثلاثة التي قضاها علي الشاوي بقابس؟ وعلينا أن نعيد تركيب كل الجزئيات والتفاصيل وتشفير الحدوس والتخمينات.نشتغل على الحقائق والتخييلات بنفس المستوى، لذلك افتتح اللقاء بكلمة مستفيضة للشيخ عمي المعاشي، كبير الحكائين، والذي قال بأن سيدي علي خرج في أول دسمبر من سنة1781.في جولة روحانية من قصبته العامرة بالشاوية إلى واحة قابس التونسية.قبيل فجر الثالث من دسمبر، فتح عينيه وهو مذهول.. ولم يكن قد نام سوى ساعة واحدة بعد سهرة طويلة مع الهبطي...الذي ما زال منزويا في ارتخاءاته الليلية يدخن شقوف الكيف،أعواد كتامة.

قام الشاوي.. ولما أراد الهبطي القيام مثله سقط.عاد مقرفصا بجواره ثم قال له بلغة الحسم:"سنرحل بعد ساعة واحدة شرقا.نفس الحلم أراه منذ أربعين ليلة يأمرني بالرحيل دون توقف، شرق الروح، ولن أنزل عن بغلتي حتى يأذن الله بذلك.جهز البغال والمؤونة وعشرة من الرجال الشداد واكتم الخبر..وقل للنساء إنني ذاهب لتفقد أحوال بلاد الشاوية ".

أغرت الأمطار الكثيرة علي الشاوي، فالجميع مختبئ وهادئ ولا خوف من أي شئ طارئ.هيأ كل شئ وانطلق مستعينا بالصوم والصمت، لا يتوقف إلا لقضاء حاجة أو تغيير بغلته، ثم يواصل المسير ليل نهار دون توقف.

وبعد سبعة أيام وليال، بين الواحة والبحر، الأرض والسماء.. توقفت بغلته وحرنت فالتفت إلى الشيخ الهبطي وقال:"هنا ذاب ذهولي".
سألوا فعرفوا أنها بلاد قابس من البلاد التونسية.

برشة برشة.. يا تاكابي

الغروب في تاكابي/ قابس وهم وتعود، مثل البحث في تخمينات جرت في هذه الأرض المقدسة التي قيدها الشيخ الهبطي أرضا حرة. واعتبرها أرض رسالات الأحرار.
في كل مرة ونحن نناقش، كنت أحس بانتعاش لذيذ وغريب.بوجه اليقين الثمل بالاحتمالات، بكلما، بربما، بلكن وحيثما.ألفة باذخة مع المكان وتواريخه المردومة.

قال بعض البحاثة في خطاب التخمين أن سيدي علي الشاوي أغرم بامرأة ذات قامة زبدية وتزوجها..وفي الأيام الثلاثة لم يكن ير أحدا، فقط وجهها النوراني.فخمنت أنها ارتمت على روحه، وكان الظلام قد لان.نظر إليها بامتنان عظيم، وكل حين كان يعض على شفتيه ويتأمل كل الفواكه المحيطة بها...في روحها وفي الرمان...آنذاك رميت يدي ( بل هو من رمى، أنا فقط أتخيل )رمى ورميت إلى الخصر فلم أجد ما يعيق اللمس، ثم في ذهول رباني رفع رأسه إلى السماء وقد علته كل الدهشات الضائعة من ايتاكا كلكامش إلى تاكابي / قابس إلى تامسنا / الشاوية.

قال وقلت وراءه: ربي الحياة حق وأنت الحق القيوم.ربي هذه ألفتي ورماني.ربي لا تحرمني من فواكه دنياك ولا تمتني واجعلني خالدا في سلالاتي.إنني في جنتك.

لا يكفي تمثل ما جرى..بل علي الإحساس به.من أكون ؟وكيف لهذا الدم الساخن الذي ألهب وجداني وهز مشاعر أمة الشاوية كلها أن يجري كل هذه السنون في دمي، طاهرا عفيا ؟.
قلت لأصدقائي: إننا نحيا ملتقى من أبهى الملتقيات.
ثم قلت إننا هنا منذ أزيد من قرنين خلت.. ننتظر هذا اليوم لنفصل في تخميناتنا المؤجلة.

مثل الندى..
كان الندى على غير عاداته منذ الأزل، دافئا، يهبط على قابس في غنج وانبهار.يتلمس الأرض العطشى ثم ينخطف ليعلو هاربا، في دلال مداعب ومستمر، وفي انخطافه الروحاني اثمل بتلك اللمسة، فينقسم من حب دافق يشقه، ليعود مثل عداء رشيق اختزن كل انتصاراته ليهبط الأرض بسلام مستسلما آمنا ينساب ويذوب...ولا أحد يعرف منذ أن خلق الله الأرض والمطر من يذوب في الآخر.

رابت أشواقي،تتفتت تذوب وتتفكك في جذبتها وتمرغت وأنا في كدية قابس أتصبب عرقا،بعينين مغمضتين أرى، سيدي علي، هناك في ربوته الخالدة بالجنة،محاطا بكل فواكه الزمان.يبتسم وأنا أتمرغ بحثا عن استجماع فتاتات أشواقي.

صوت ينهمر من بعيد، من هنا أو من هناك، لم أستطع تحديد مصدره، ولكنه نفاذ روحاني وطاهر، يخترقني....أغاني قديمة بموسيقاها الحارة، والعلو الفادح الذي لا تشده حبال امرأة أو رجل احرش...
تمهلت وخف عني صبيب العرق وأرخيت سمعي:
كانت تغني:"نموت عليك بالحديد الماضي...واللي دواو ما هموني ".

كان جدي يضحك حتى خلتني أسمعه وسط قولها الجريح:" الشعر كحل غمرة ملوية "، وعيناها غيمتان تسقيان روحي صباح مساء. "الرقبة، سبولة كتامية "، أحضنها وأدق بماء روحي أعوادها للتكييف.ورمانتاها "عسة وطنية " وساقاها "شمعة مكدية".

قام جدي،هناك.فسعيت إلى استجماع ذراتي، ونهضت ثم عدت فربت أبحث وسط التراب المعجون بعرقي وروحي، عن مشاعري ووجداني التي ذابت وتسربت إلى الأودية الجوفية ترحل في عمق الأرض خالدة في الأزل المظلم.

قالت:" اللي بغا الله بغيناه...الشاوي يزند عشقو ويزيد عليه ".
آنذاك عادت إلي روحي، وطلعت من دمي خمائر وجداني، "مشيت وجيت..وما فاقت بيا /الفراق صعيب..والولف زاد ما بيا".

استقمت في وقفتي الأبدية، فتحت يدي على طريقة المصلوب – وأنا المسلم المؤمن التقي الورع- أريد معانقة أرواحي التي سكنتني منذ سقوط عقبة،ولم ينهض وهو يتذكر الأغاني القديمة.

عتاقة الزعفران..

تخيلت جدي، المقدس، مؤسس أحلامنا وتناقضاتنا،لما كان بقابس،دندن بكلام اعتبروه شعرا، وندم لما لم يستقدم معه الهداوي والعيساوي ( أما با عروب فقد مات وتركنا ).
في أول يوم من وصوله حلق رأسه بالمكان الذي كان يعيش فيه أبو لبابة الأنصاري يتطهر من ذنوب لا يعرفها غير جدي.ثم قام غسل رأسه بماء دافئ و لف عليه الشد بزهو متحسسا، بيمناه،صدره كما لو كان يبحث برفق عن جرار بها أساطير مدفونة.
قال للشيخ الهبطي: لا تدون ( وفي الأصل لا تكنش) شيئا عنا هنا، فصحائف السماء كفيلة بنا...ثم اتجه، رفقة الهبطي فقط، نحو البحر وكان الوقت ساعة غروب.نظر إلى الشيخ ثم تقدم وحيدا إلى بحر قابس.أبصر الغروب بعينين مشبعتين بكل التذكرات الماضية والآتية، فرآنا، بل رآني وحدي بين ألفتي وغربتي....فرفع يمناه عاليا، كما رفعها كل الأنبياء من قبله ثم رمى الشد الأبيض عن رأسه الحليق ودخل الماء مستحما بملابسه وقد توقف غروب قابس إلى الأبد.

رؤيا مفتوحة
هل كنت معه...أم هو الذي جاء إلينا؟ أم أننا في حلم طويل ؟ كانت السماء مثل كبد عامر بالحنين. تحديقاتي تلهمني أن أرى ما ضاع واندرس، فرأيته أمامي جذلان بي.. لم أسأله عن محمد بن عبد السلام. كيف عرفت أنه عاد بدوره واستقر في المزامزة بحقول أولاد سليمان يقيد الرياح ويوزعها. ثم سمعت صوته دون أن يلتفت أحدنا للآخر في اتجاهين متعاكسين، هل أنت محمد بن عبد السلام؟ قلت: لا، أنا الغزواني والنعماني والسليماني والزعفراني، ثم أحسست بهبوط وجداني عميق أشد حمرة من دم الحلم الذي طلاني، ومن لون الأرض والغروب والإحساس، فمشيت وهم خلفي حتى رأيت سورا قابس العظيم لا حدود لعلوه، وسمعت خلفه أصوات الحياة ثم اندفعت ودخلت آمنا.

حزن ثقيل تملكني، وشوق أعظم زئبقي للقاء الشيخ الهبطي، خصوصا بعدما نمى إلي عمي المعاشي بأن داخل السور توجد الجنة في شكل "قصبة" بداخلها كل شهداء هذه الأرض وبمحاذاته يجتمع الشيخ الهبطي وعلي الشاوي وعياد العشي وعبد السلام يحاكمون المنصري وعبو الريح.

وكيف خرجت أنت ؟

قلت له: الشهداء وحدهم يحيون أبدا ويدخلون ويخرجون متى شاءوا. (قال) وأنا، نعم، ولماذا أحرم من دخولي البيت القديم، جنتي التي رسمتها بخيالاتي اللاهبة، لم أشأ الموت لأني انتظرتهم لأسألهم وأقبلهم ثم أسكن معهم.
عدت منكسرا بعدما فقدت الأمل الذي اكتنزته لهذه اللحظة، أحسست بنزيف داخلي في لا مكان، نزيف أحلامي التي شممت رائحة دمها ودمي حيث يسيران بنفس البطء والحزن والغضب.

ليس خلفي غير الهداوي والعيساوي ورائحة أمي الزكية. مشينا في صمت تحت تدفق الغروب الذي كان حبيس إشارة جدي، فتمددت رائحة مختلفة عتيقة قادمة من ألفة اسمها شامة تجلس منعزلة أسفل شجرة خروب، اقتربت منها وقد نسيت ارتباكي الأول. ما زالت في نفس عمرها الذي خلفته منذ خمسة عشر قرنا في لحظة غدر مزدوج، لن نسامحهم فيه. قبل سنة كنت قد قلت للهداوي إن شامة لن تهبط إلى أرضنا حتى تتطهر بالأمطار الطوفانية. و لن تسامحنا حتى نرجع إليها دمها المسفوح، و لن تلعب فوق ظهر بويا حتى ترى أنوار الحق العظيمة.

عدت إلى ارتباكي وأنا أدنو من شامة فقلت لها: أنا عبد السلام، بل محمد الشيدي بل الغزواني، نعم، أنا الحفيد،شعيب الشاوي بن محمد بن عبد السلام بن خليفة بن جدنا علي.

أنسيت أن جدك علي الشاوي أحبك ورآك منذ آلاف السنين ؟

ضحكت، ثم أخرجت دفاترها القديمة، ببطء فتحت الصفحات الأربع الأولى، وفي الخامسة لمحت صورتي بالرصاص الأسود،كتبت عليها بخط متعثر "بدأت أحبك ". لم تتكلم وجلست جوارها مثل طفلين يهيئان مؤامرة ضد العصافير القادمة.

خمنت، هل ستتذكرين حينما أشرح لك طرق الصيد بالفخاخ والشباك؟. لم نعد يا شامة نرث في هذه الدنيا غير حبك وطهريتك... ثم عانقتها وأحسست برعشات موروثة أستعيدها في دمي، أغمضت عيني داخل حضنها، ثم هممت بفتحهما فرأيتني صرت أعمى. لم أصرخ، توحدت داخل نفسي هبطت إلى وجداني أبحث عن منديل "عبدية". أخرجته وسلمته لشامة التي رمتني به فأبصرت وعدت أقول لها:

 كتبت عنك حبا باسم يامنة والمزمزية وكل الشامات ثم عبدية ولالتهم والفاضلة وحمرية ومنانة....
 ولكن، لماذا قتلتني، قالت.

 لأنك أول وآخر ملاك شهيد من سلالتنا، وأجمل ثورة في وجداني.ألهمت روحي للكتابة عن ألمع ثورتين في عالمنا.
 قالت في احتجاج شفاف: بل مرت في عالمكم –منذ بداية التاريخ – عشر ثورات مكتوبات بنور الحق على مآقي الملائكة بالزعفران وفي قلوب الشهداء والأصفياء.
 نعم يا شامة، كل ثوراتنا تختزل المستقبل، نكتبها بدم أحلامنا على مرايانا الصلبة.

أخذتني من يدي اليمنى، ابتسمت وقالت لي أن أغمض عيني ثم أفتحهما، رأيتني، معها ندخل أرضا من كبريت أحمر وزعفران حولنا منارات من ذهب،مزينة بالجواهر.قابس ملحقة شاوية نخبئ فيها حبنا القديم ونتعشى،سويا،بالحليب والكرنينة.

لما اقتربنا من أحد الأبواب، قرأت على لوح كتب بحروف عربية، هذا بيت شامة الخالدة. دخلت، لن أروي ما رأيت، لن أتكلم عن الجنة. أبدا لن أنسى ما قاله لي علي الشاوي والكناش الذي أطلعني عليه بويا الشيخ الهبطي... ثم وعدتها ومشيت أبحث عن الطريق مرة أخرى وصدى قوله: أنتم عبيد الزمن، لو تحررتم للحظة... ". ماذا يعني ؟ لم أفكر في كتابة فصل ظل ناقصا في تقييد قديم لأن الفصول الخمسة التي تخيلتها عدت فعشتها وسمحت لي أن أحيا فصلا سادسا عشته.

حوار قديم ( من مخطوط ضائع)

 هل أنا بربري أم صحراوي...أحس إني مثل عيساوي يروض الحياة ( وليست الحيَات ( في هذا الصهد الذي يغري عطشي.

 قالت لي: أنت تطارد غيمة. دعني اقطف لك كمشة ياسمين من مدينة الرمان، هناك الشيخ الهبطي يطل من نافذتي صباحا ليقول لي أشياء جميلة تنتظرك.

 نظراتي تسبق كلماتي،وقالت:ما يقهرني ويهز كل وجداناتي..مطوحا بها - في انشداد وذهول رومانسيين - من الشاوية العظيمة وسهولها الطاهرة إلى ظلال وآثار الجنة التي ضاعت منا.. إنها الرغبة الآن في أن أراك وأكلمك وتجري الفتنة بيننا مجرى الشمس من المغرب إلى الجنة ( ذهابا وإيابا).

 مثلي،لا يتعبها في هذه الحياة إلا قلبها وفهمها العميق للغة الإشارات ودلالتها.

 انتبهت إلى كل مساحات انبهاري التي لا ترويها غير كلماتك النبيلة والفاتنة مثل سهو نظراتك في اشد لحظاتها عمقا.سأكتب إليك لاحقا كما لو اكتب إلى دمائي التي ظلت مسفوحة في امتدادات الروح.

الوقوف بقابس

وقفنا أنا وجدي في نفس المكان واللحظة بفاصل قرنين وسنوات..ورغم ذلك أحسست به يزاحمني، ومثلي يقف وننظر إلى السماء، ثم أجلس على ربوة بلعمان.
 يكفي أن أسمع صوتك كي أحيا حينما أكون حزينة ( قالت بصوت ناعم ).

 يبدو أني سأكمش صوتك بين يدي وأعجنه...ثم أطلي به روحي وجسدي ( قلنا، أنا وجدي في نفس الآن).
 لا تؤلمني، أنا أموت بين يديك.خفف عني وهبني المزيد ( قالت).

خرجت من ذهولي ورميت يدي إلى قلبي وأخرجته لأطوح به كمن يريد زرعه هناك.

هبطت إلى الأرض جالسا، تمددت ووجهي إلى السماء.نظرت من بين أصابعي إلى الشمس فتذكرت أني مواطن إفريقي ( بداخلي قلت).

سيظل وجداني شامخا..ولما رمشت عيناي كان الله قد أعن القيامة فأبصرت شامة تركض بحب وخوف وطموح، ثم ترتمي أمام الله، سيدي ربي، تبوس وتضحك وتبكي وتقول وسط كل هذا: آسيدي ربي دع لي الشاوية.

فتركها لنا جنة من جناته المعلومة.

البيان الختامي للملتقى

 قلت:أليست الحكاية هي البحث عن حلم، دمه الذي يجري في عروقها هو نفس الدم الذي نتوارثه نحن الحكاؤون والقراء معا...دم كلما تجر طلع منه النسيان حارا وقاسيا.

 قال:" عكس ما يراه الناس: المشكلة ليست في التذكر، إنها في النسيان؛ كما أنها ليست أبدا،ً في الغربة والغريب، بل في الألفة والأليف. وتلك هي المسألة. ولله در أبي القابس التونسي عافى الله من جميل سحره، ووافى من نعيم خيره آمين آمين." (من وصية عمك المعاشي).
 قلت: الرحمة مثل الألفة وأنا في حاجة إليهما.

 قال: سيدنا الأكبر شعيب زمانه.أما بعد، فلقد طالعنا تقييدك العظيم بشأن قابس المحروسة وفهمنا مراميك السامية..فإننا نجيزك في ما ذهبت إليه...ونطالبك بعتق التقييد ليطلع عليه كل (كلمتان حذفتهما الرقابة) آدمي في بلاد المغارب والجريد. ( الحبيب عبد سيدي ربي، الله وليه).

 قلت:كلما طاف دمي في عروقي طوفانه اليومي يجدك فيه سابحا مسبحا.

 قال: كما نكتب في لحظات تاريخنا الحقيقي أو المتخيل، قد توجد قي حياتنا لحظات ندونها بصدق أعمق من صفاء المشاعر ونبل الأمكنة في ألفتها وسلوتها وطراوتها، فتبرز عبرها حتى حقيقتنا المحجوبة، ومن خلالها حقيقة خلاننا.( المرجعية الأيقونية، عبدو الفيلالي).

 قلت:من هناك، من قرنين وعقدين وستة أعوام رماني بسلهامه الأضرع، صنيع جدتي الخالدة، فأحسست بالدفء.

 قال: هناك وقائع وأحداث ولحظات نعيشها وتكتبنا قبل أن نفكر في كتابتها، فتُظهر كل ما حاولنا التستر عليه، مهما استنجدنا بحيل اللغة، بصدق أعمق يتسلل عبر الكنايات والاستعارات.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى