الثلاثاء ٢٩ كانون الثاني (يناير) ٢٠٠٨
بقلم سامر مسعود

ديَّان

في عالم آخر...غريب وبعيد، كان هناك حي لا يكف عن الصراخ، عقوده القديمة مشيّدة بتراب تاريخ هرم، أعشاب جدرانها ذكريات حياة صاخبة مضت، يتعهدها صامد بذوب روحه. كثيرا ما كان يسمع الناس أحاديثَ تدور بينه وبينها. الغريب في الأمر أن مثل هذه الأحاديث لا تتم إلا بينهما فقط، وإذا ما حاول بعضهم أن يكلمها تصمت صمت القبور!!

مقابل تلك العقود تماما تربض بيوت بيضاء ذات سقوف قرميدية حمراء، على جوانبها تقف سيارات حديثة أنيقة. وفي أحد تلك البيوت كان يسكن ديّان.

في البداية، كان صامد يقول للناس من حوله أن تلك البيوت البيضاء قد أصابت عقوده بالزكام الحاد. ولكن فيما بعد تحول صوته إلى صراخ ونحيب بعد أن رأى عقوده تنكمش وتنهشها الأمراض. زاد من غضبه وخوفه صوتها الضعيف الذي تحول مع مرور الأيام إلى أنين...

بعد ليلة حالكة، غزيرة الأمطار، رعدها شبيه بخطوات غريبٍ قاسية، غادر صامد إحدى تلك العقود، دخل الى نادٍ ترتاده وجوه غريبة، تنطلق أغنية غريبة صاخبة، صوت ارتطام كرات البلياردو أشعره بالغربة، أطرق قليلا، اعتلى طاولة قريبة، ثم صرخ بأعلى صوته:

 سمعت ليلة البارحة مشادَّة كلامية عنيفة بين عقودي والبيوت البيضاء... كانت عقودي تبكي... تتألم...

 ما الغريب في الأمر؟! سأل رواد النادي.

 كانت كلمات البيوت تلوِّث فضاء عقودي... إنها تختنق.

تعالت الضحكات الساخرة في أرجاء النادي كله... قال أحدهم:

 كفاك جنوناٌ، عقودك قديمة وقبيحة، وأصبحتْ موطناً لتكاثر البعوض والفيروسات الخطيرة... إنها مرض الحي بأكمله...

 "فعلها اللعين ديّان... لقد لوث عقولكم أيضا..."صرخ بأعلى صوته، وخرج مُغاضِبَا صوب بيت ديان.

نظر صامد نحو البيوت البيضاء، شعر باختناق، استجمع ما تبقى من لعاب وهمَّ أن يبصق، ولكنه تذكر بيادر طفولته فوق تلك البيوت فابتلع غضبه، وواصل سيره. لمح من بعيد ديّان وهو يبول على أحد جدران تلك العقود ضاحكا منتشيا... اقترب منه والأسى يذيب بقايا روحه:

 فكِّر قليلا...أتيت إلى حيي مستجديا فآويتك، وبالمقابل أقلقت روح أعشابي وعقودي بقبورك البيضاء، أفسدت عقول الناس من حولي، والآن تهين بنجاستك طهر أبنيتي...!!

كانت جموع الناس تزداد رويداً رويداً. التفت ديّان إلى جموع الناس وقال:

 يهددني هذا المجنون بالقتل، ظننت أنني سأحيا بسلام فوق هذه الأرض، أكتشف الآن كم كنت مخطئا. سأغادر الحي الآن..."تعالت أصوات الناس باستهجان:

- كما ذكرْت...إنه مجنون، يعيش في ماضيه المتخلف. لا تدعه يبدد أحلامنا بهلوساته المجنونة... فكِّر بحالنا... سيخسرك الحي بأكمله.

 ما الحل إذن؟ سأل ديّان.

 سنحرسك حراسة مشددة.

 إذا سَلِمت منه فلن أسلم من تحريضه للأرض التي أمشي عليها... إنها تسمع كلامه... إنها تكرهني...

 سنغير الأرض بأرض تحبك.

 ستلعنني السماء.

 أطلب ما تريد، نحن بحاجة إليك.

 مطلبي صعب التحقيق، والأفضل أن أغادر.

 مستقبلنا مرهون ببقائك.

 علينا اقتلاع الجنون من الحي. عندها فقط سأشعر بالأمن.

 ماذا تقصد؟

صمت ديّان لوهلة، ثم قال بعد تردد:

 صامد.

كان وقع الكلمة على مسامعهم أشبه بلدغة ثعبان، خيم الصمت لوهلة فوق رؤوسهم، اختلسوا نظرات خاطفة نحو صامد، اقتربوا من ديّان وهمسوا بأذنه:

 سنجبره الليلة على المغادرة.

في هذه الأثناء كان صامد يحلق فوق عقوده بأجنحة بيضاء كبيرة، تشاركه الحساسين بعزف حناجرها، في حين كانت أزهار الحنون والنرجس تؤدي رقصتها الأزلية...

عندما انتصف الليل، كانت جموع الناس تدخل عقود صامد... كان غارقاً في نوم أثيري، يحلم ببحر واسع، وسماء زرقاء صافية تتوسطها شمس ربيعية دافئة. أمسكت الأيدي بجسده النحيل بعنف، الجسد يرتفع قليلا، وما كادت أرجل الناس تتحرك حتى امتدت أذرع سمراء من سقف العقد وأرضه وجدرانه انتزعت الجسد واحتضنته. أثار ذلك غضب الحاضرين ودهشتهم، أخرج أحدهم مسدسه، وضع الفوهة بحركة سريعة نحو الرأس تماما وأطلق النار...في تلك اللحظة كانت قهقهات ديّان تختلط بنحيب مجهول المصدر، زعم بعضهم أنها كانت صادرة عن تلك العقود...عقود صامد...كان ديّان يحدق بالجثة الهامدة بتشفٍ واضح...أدار وجهه نحو الحي المجاور فبرقت عيناه من جديد...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى