الخميس ١٤ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم زكية خيرهم

أعطيك كل شيء إلا....

يحرق غربته المليئة بالضجيج في المقهى مكانه الدائم صباحا ومساء . أتأملُه من بعيد وهو يدخن سيجارتَه وَيشردُ بعينيهِ التائهتينِ في الدخان. تأخذه الذاكرة بعيدا عن منفى الوطن وعويله المتلون بالتوتر. يحدق في رحيله دون ذنب من وراء ذلك البحر الممتد من جرحه البعيد. يلف سكونه دموعا تكتظ بالذكريات وملامح ذلك العالم المنهوب جلية بسحنته الشاحبة. كان يحلم بوطن وحب وأصدقاء. تركوه وحيدا ينتظر أميرة صغيرة تأتي من كوكب بعيد، لتأخذ قلبه الذي نسيه أهله وعشيرته حينما أخذوا الذكريات ورحلوا. فما عادت له رغبةُ في الوجود. كل شيء أصبح في عينيه ضيقا... حتى الأرواح ضاقت. يشعر بالضيق في كل مكان، في صدره، في القارات، في القرى، في القلوب، الثلج جارح، والظلام فتاك في وضح النهار ورغم ذلك لا يفارق المقهى حتى منتصف الليل. هذا الليل الذي لا يفرق بين البحر والسماء ولا بين البياض والسواد ولابين عصفور غريب على الشرفة وإنسان غريب عن البلاد. كان يخترق بعينيه وجوه الشقراوات، يضرب بقدميه الأرض ويشدّ على يديه بعصبية. أحيانا يبتسم لكل من تلتفت إليه وأحيانا أخرى يقطب جبينه عندما لا ترد على ابتسامته إحداهن. إلتفت إلى يمينه، فإذا به يرى فتاة حنطية اللون تجلس في زاوية المطعم وفي يدها كتاب تتصفحه باللغة العربية. نهض من مكانه بسرعة البرق متجها نحوَها.

مساء الخير يا آنسة، هل أنت عربية؟
وضعت كتابها على الطاولة، تطلعت إليه باستغراب، ثم قالت:
نعم، هل تريد مساعدة؟
من فضلك يا آنسة، أريدك أن تترجمي لي باللغة الإنجليزية بعض الجمل ...
أهلا ... مساء الخير ... أنت حلوة .. هل تقبلين دعوتي إلى الديسكو ... أحبك ... أموت في عينيك الزرقاوين ... أنت جميلة كلوحة فنية ... أنت كالقمر ... أنت كالعسل ... أنت كالورد وكالشهد يا قمر ...
_ مهلا، مهلا لماذا كل هذا الغزل؟
ليس لك.... الآنسة القادمة من هناك، تكرمي عليّ بترجمتها أكرمك الله.
أخرجت ورقة من محفظتها وخطّت له جمل حياته الجديدة.
شكرا آنستي لن أنسى لك هذا الجميل.

رجع إلى مكانه يتلصص باحثا عن طريدة من أولئك الشقراوات ذوات الحسن وفي نفس الوقت ينظر إلى الورقة ويردد جمله المترجمة، فلم يكن يرى إلا فتيات خائفات، يتبعهن بعينيه كالأيل الجائع في سكون الليل. مرت ساعات لكنه لم يفقد الأمل إلى أن أبصرت عيناه فتاةً في الثلاثينيات، ضخمة الجثة، تلبس نظارات سميكة تحجب عينيها الصغيرتين المحولّتين. نظرت إليه، احمر وجهها، ارتبكت جلست إلى طاولة بالقرب منه، فتحت جريدة تتصفحها وتسترق النظر إليه من حين لآخر. كان فتىً أسمرَ اللّون، يوحي بالإرتياحِ بأنفه الحاد كنصل بارق مسلول، عسلي العينين، طويل القامة، أنيق الملبس." وقعت أيتها الطريدة السمينة في شباكي."

اقترب منها وقال:
هاي، اسمي زياد.
نظرت إليه، وجنتاها متقدتان بلون كاحمرار شمس منتصف الليل. شعرت بالإرتباك، فقدت صوتها وقالت وهي تتمتم:
هاي.
أنت حلوة.
شكرا.
أنت كالشمس تتناسل في دوحتها الأزهار .. أنت لوحة فنية في الجمال ... أنت كالورد العاطر و كالشهد يا قمر ..
ضحكت ضحكة خالطها استغراب وقالت بنبرة حزينة
صحيح!؟
غابت بفكرها متسائلة ......

"أنا التي يبدو لي أن ملامحي لا تخلو من فتنة وأني قد أكون مثيرة للإعجاب، عكس ما أعتقده في كل لحظة تمر من حياتي، ظالمة نفسي بشكل قاس من أني فتاة قبيحة تجرح النظر.

ابتسمت، إغرورقت عيناها فرحا وحسرة على الماضي، تسرح بعيدا." أنظر يا قلبي كيف أصبحت الدنيا مبتسمة حواليك ... عِِشْها الآن وانسى الجراح ... تلك التي كانت وولّت.. الآن يا قلبي سترسم حياتك من جديد وتفتح بابك الموصد لعواطفك ... أنظر كيف أشرقت الأنوار علينا ...! هذا الشاب حتما نصيبي، ستجده يا قلبي يناديك و سينسيك لياليَ الوحدة الموحشة وينسيك بحر الظنون الذي كنت تعيش فيه، فكدت تغرق في بحر النسيان.

أما هو فكان ماسكا يدهامغازلا، طالبا أن تريحه على صدرها وتذيب صخر أحزانه ....
هل تقبلين دعوتي إلى الديسكو؟
أجابت بسرعة وبدون تردد.
نعم ... شكرا.
طيلة الليل كانا يرقصان ويشربان.
ما رأيكَ في أن تبيت معي الليلة في شقتي؟
ليس عندي مانع.

كادت تطير من الفرح، جمعت بعض المجلات المبعثرة ورتبت الشقة، ألقت نظرة على مظهرها في المرآة، فوجدت نفسها أميرة في الحسن وأن ثيابها لا تخلو من تناسق. لماذا كل هذه السنين لم يتطلع إلي رجل واحد فقط ... مرت بالمشط على شعرها الأشقر، ثم عادت بخطى واثقة نحوه. جلسا في فردوس غرفتها وهما يتحدثان. كان يضمها بين ذراعيه وكانت هي تغطيه بليل شَعرها وهو يكتب كلمات أشعاره على عينيها المتلألئتين. تركت أناملها تسيل على سمرة أصابعه في وحشة وشوق حيث عاصفة الصقيع تصهل وحبات اللؤلؤ تغطي الفضاء في ذلك الفصل النائم.

حملت(كريستين) وكانت أسعد مخلوق على وجه الأرض بعد أن كادت تفقد الأمل في أن تصير أمّا. أما هو فكانت واقعة حمل طريدته كوقع السيف على عنقه. الثمن غال يا غبي. أهذه هي الفتاة التي ستكون شريكة حياتك؟

وٌلدت (ندين) ... جميلة، رقيقة، وشعرها الطويل الكستنائي يغطي ذلك الجسم الصغير الناعم. أنشدت أمها أجمل الشعر وصلّت جاثيةَ تشكر الله الذي حقق لها أملا لم يكن بالنسبة لها إلا حلما يتسلل إلى مخدع نومها. كانت لابنتها المدرسة الأولى والأم الحنون.... تخاف عليها من النسيم ومن الحر ... حببتها بالعلم وعلمتها حرية القول والفكر. أصبح زياد يتمتع بجنسية البلد كما أصبح عمر ابنته عشرة سنوات. أقبل على زوجته وفي يده باقة من ورود تحمل ذكريات المكان عندما كان مقطوعا بلا أوراق ولا سكن، وكانت هي تحمل همومه المبعثرة بين العواصف والأمطار، تشم الباقة وتبتسم بينما هو وضع يده على خصرها وقال:

الليلة ليلتي ... ليلتنا يا حبيبتي ... سنحتفل بمناسبة حصولي على الجنسية. وضع قنينة النبيد على الطاولة قرب وردة حمراء ، ثم أحضر العشاء الذي أعده وأجلس زوجته بجانبه:

لقد حان الوقت لتملكي قلبي، دعيني أكون ضحية نشوة شفتيك، خذيني بين أحضانك واذهبي بي إلى بحر عيونك.

نزلت دموع الفرح من عيني كريستينا، ذكرّتها بلقائها الأول به. أمسك كوب النبيد اقترب من جسدها إلى أن التصق بجسده، شعرت هي برعشة تسري في كل جسدها ...ابتسمت ... خفضت عينيها ... خجلا ...همس بصوت منخفض ومتقطع:

هل تعلمي يا حلوتي مدى عشقي وحبي إليك ... كم مشتاق لبسمة عينيك أرسمها على أيامي يا ساحرتي يا ملاكي ، تسكنين روحي وجنود عينيك تفجر فيّ أشواقا إليك؟

بعد تلك السهرة، أغمضت (كريستين) عينيها أما شفتيها فظلت مرسومة عليهما ابتسامة السعادة إلى أن رنت ساعة الفزع المبكر، استفاقت فلم تجده بجانبها. ابتسمت، من المؤكد أنه نائم بجانب ابنتنا (ندين). لا (ندين) ولا أبوها في الغرفة. لمحت ظرفا صغيرا على منضدة ابنتها. فتحته بلهفة."أنا متأسف ... وداعا". جحظت عيناها من وقع الصدمة، تصيح متوسلة والشقة تدور من حولها وصدى صوتها طنينا في أذنيها.تتعثر بخطوات مبعثرة ودمعة حائرة تتساءل بحرقة: ."لماذا ...؟ تتخيل ندين وهي تمشط شعرها وتغني لها أغنية الأميرة الحسناء، تتخيلها وهي تشرب كوب الحليب في الصباح قبل ان تذهب إلى المدرسة. تتخيل وجهها وهي عروس. تفقد سيطرتها على لجام الصدمة، تهرع إلى غرفتها، تتقيأ أنينها، تمسح بيديها المرتعشتين عينيها وأنفها وفمها. سكون وظلام ذلك الفصل الثلجي يمزق وحدتها، تحس بفراغ ينهش قلبها بدون رحمة، فراغ بداخلها يتفاقم، تصرخ ووجع كالطوفان يعتريها لإختفاء فلذة كبدها، تبكي عن عالم لم يعد فيه للإنسان انسانية. عالم يميل حيث يميل التيار... ."بالله ماذا فعلت لك يا زياد..؟ فقط وهبتك قلبي وحبي وانجبت منك ثمرة لتشد وثاقنا وتزيد من حبنا وارتباطنا، غدرتني وجعلت حبي لا جناح له...! بل قتلت روحي وجعلت منها مقبرة تنعق عليها غربان الشؤم..." حملت سؤالها المستحيل ... تجري به باكية فوق الثلج وفوق الندى وبين الغابات وفوق التلال. تندب حظها المشؤوم وجرحا عميقا مُترعا في قلبها تصيح."أعطيك كل شيء إلا نادين."


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى