الاثنين ١٨ شباط (فبراير) ٢٠٠٨
بقلم محمد ملوك

مقال ومستشفى أمراض عقلية

جلس القرفصاء كعادته، أشعل ما تبقى من سجائره النتنة، قلب في خزانته المهترئة عن كتاب يتكلم عن الحق بين المفهوم والممارسة لكن عبثا يحاول،...

هو يريد أن يصبح صحافيا مشهورا على الرغم من كونه لم يقرأ ولو حرفا واحدا من أبجديات الصحافة...

بحث في أرشيف الجرائد التي كان يجمعها كل يوم من سلة مهملات الآخرين عن مقالة تعينه على الموضوع فأبت أن تمد له حروف المعونة والعون...

أخرج من جيبه المتسخ ببقايا أعقاب السجائر وحبات”عباد الشمس”ورقة مطوية و طلب من أخته الصغيرة أن تناوله قلمها المستأجَر سبقا من ابن الجيران، وفتح في أعلى الورقة مزدوجتين كتب بينهما :”حق الحق التحقيق”.

فتش وفتش فلم يجد بدا من الإعتماد على نفسه في صياغة مقال جديد يضيفه إلى سلسلة مقالاته القديمة والتي ياكم أرسلها إلى المنابر الإعلامية الوطنية والدولية دون نشر يذكر.

“لا نشر لك مع اليأس”هكذا كان يسلي نفسه كلما طال الأمد على لبد وكلما وجد إسمه مدرجا بين الضمائر المستترة أو الغائبة عن حيز الظهور على صفحات المجلات والجرائد.

“حق الحق التحقيق”و”الحق أن تبحث عن الحق”و”الحق يؤخذ ولا يعطى”و”الحق إن لم يتخطى حدود الممنوع وأسوار الباطل فليس بحق”... جمل جعل منها رؤوس أقلام لمقال سهر من أجله الليل كله، وقبل أن يعيد توظيبه و صياغته على ورقة بيضاء نظيفة تلاه على مسامع زوجته ـ المثقفة بعض الشيء والمرغمة على السهر معه حفاظا على مشاعره الحساسة ـ ليأخذ رأيها فيه وليرضي غرورا لطالما افتخر به بين زملاء الدراسة ورفاق البطالة...

“رائع، ممتاز، لم أقرأ مثله من قبل، فريد من نوعه...”عبارات كانت كفيلة بزرع الثقة في نفسه ليقرر بعد نوم عميق إرساله لإحدى أشهر الجرائد الوطنية في بلده.

وبعد يومين فقط من كتابة المقال، وبينما هو عائد من وقفة إحتجاجية فجر فيها رفقة بعض المعطلين ما تيسر من غضب وثورة وهيجان وسب ضد مسؤولي السلطة ـ الذين كلما وعدوهم بحل مشاكلهم إلا وأخلفوا وعودهم ووضعوا في آذانهم جلمود صخر لا يشق غبار ولا يتشقق رغم حدة الأصوات المضادة له ـ، أشار على رجليه المتورمتين بالتوجه نحو باعة الجرائد للإستقصاء عن آخر الأخبار المحلية والأجنبية، ولكم كانت فرحته كبيرة حين وجد عنوان مقاله منشورا بالبند العريض جنبا إلى جنب مع باقي المقالات الأخرى، وبلا تردد أو تفكير إقتنى الجريدة وسابق الريح ليبشر زوجته بأول ظهور له على الساحة الإعلامية.

قرأت المسكينة المقال، وظل هو يردد”هذا أول الغيث، هذا أول الغيث، وإنما السيل اجتماع النقط”، وقبل أن تشفي غروره بتعاليقها الجميلة فاجأته بعبارات قليلة كانت كافية لتدخله مستشفى الأمراض العقلية :”لقد نشر المقال يا عزيزي... لكن بإسم مدير الجريدة وليس باسمك”.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى