الأحد ٢ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم سامر مسعود

صهيب

بعد اغتراب عام في غربة الوطن، تجمعك به المصادفة. لايزال كما هو؛ ضعيف البنية، يمشي بتثاقل وبانحاء خفيف. تتصافح الأيدي باشتياق، تسأله:

 كيف الحال يا أبا أحمد؟
 بخير، مستورة..." عيناه يخبران بشيء مختلف. يواصل حديثه:
 مرّ زمن طويل... الأصدقاء يسألون عنك باستمرار" تدرك، بحكم العشرة، أنه كعادته، يهيِّئ مسامعك لأمر ما.
 العمل في القدس في ظل هكذا ظروف، يعزلك عن الجميع" تحاول أن تذكره بقسوة الظروف المحيطة. تصمت للحظة، ثم تواصل حديثك كمن يتذكر شيئا ما:
 أخبرني عن المدرسة والطلبة والزملاء... اشتقت للمكان كثيرا.
 أغلقوا البوابة الرئيسة المشرفة على الشارع الرئيسي، وأحاطوها بسياج عال لأسباب أمنية، كما جاء في كتاب القرار الذي تسلمه المدير من ضابط المنطقة.
 كيف منصور و رضوان وعادل وأبو إياد...؟
يلتفت إليك بارتباك، يبحث عن كلماته، يرسلها عبر نظرات كاسفة:
 قتلوه..." يشيح بصره عنك هروبا من وقع الصدمة على وجهك. تشتد ملامح وجهك كقنبلة، تسأله راجيا أن يكون ما سمعته قصورا في حاسة السمع لديك:
 ماذا قلت؟
 قتلوه..." تختلط الكلمة ببكاء واضح، تتأكد الان من حدوث فاجعة لم تصل إليك بعد. تعاجله بالسؤال:
 من الذي قُتِل؟ تتمنى بتأثير ذكريات جميلة مضت أن لا يكون هو.
 صهيب..." يصفعك الاسم، تتأوه، تخور قواك تماما، لم تكن تفكر للحظة، قبل الان، أن يخونك الاسم بالموت، تلم شعث الروح، تسأله بنبرة ناحبة:
 متى حصل ذلك؟ تحاول أن تتلقى الصدمة على جرعات:
 بعد أن غادرْتنا بشهر" تشعر بلعنة تطاردك... تتذكر عندما طلبت مشورته حول عملك الجديد... كان يعاينك بنظرات حادة، تساءلت حينها عن معناها ولكنك لم تفلح في تفسيرها، ثم قهقه بجنون وتركك. تمنيت حينها لو تكلم ولكنه لم يفعل. وها هو الان يكلمك ببلاغة، تكتشف بفصاحة خطابه غباءك المطبق، لم تدرك في تلك اللحظة وجود أشياء لا تقع في مدى الكلمة لسموها أو لدناءتها.

يحاول أبو أحمد أن يواسي نفسه بترميم جروحك:
 أغلقت المدرسة أبوابها ثلاثة أيام، حاولت حينها الاتصال بك ولكنني لم أفلح" يحاول أن يضلل رتابة جرعات فجيعتك، تدرك ذلك فتسأله:
 كيف حصل ذلك؟

 في البداية، أصابه الجنود من نقطة مراقبة، بينما كان يحاول إزالة جزء من الحاجز الترابي...
 ألم يتنبه لوجود النقطة العسكرية؟ تتساءل كأنك تتحكم بخيوط ما حادث، وتستطيع أن توجهها كما تحب.
 بلى، ولكن لم يستمع لتحذيراتنا... الغريب أنه استمر بعمله غير مكترث بما أصابه... وما أن اقتربنا منه تفاجأنا بدائرة مغلقة من الجنود تحاصرنا، لا أدري كيف وصلوا بهذه السرعة... اقترب أحدهم منه، كانت ساقه اليسرى تنزف، ويداه تواصلان ازالة الحاجز الترابي بإصرار عجيب متجاهلا كل ما حوله، أمسك الجندي بقميصه من الخلف بشدة، ثم صرخ بغضب ساخر:" عربي وقح..." ثم رفس بحذائه الثقيل الساق المصابة. ابتلع صهيب ألمه، اقترب من الجندي قليلا، ثم بصق في وجهه، لم يحتمل الجنود تلك الإهانة، ألقوه أرضا، وانهالوا عليه ضربا وركلا، ابتعدوا عنه فجأة، وما هي إلا لحظات حتى سمعنا اطلاق نار من النقطة العسكرية... أصابته في الرأس تماما...

تفجعك الحقيقة، لن تتمكن بعد الآن من رؤيته، أو سماع صوته، اختار أن يغادر ببلاغة الصمت، تحوَّل إلى صفحات معنى في ذاكرة مثقلة... ذاكرة عتيقة حبلى بميلاد حياة من نوع اخر...


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى