الأحد ٢ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم ناصر الريماوي

صباح ممطر... يوم قاحل

خلوة مع أول زخة مطر، حتى لو من خلال لوح زجاج سميك، فهذا يفي بالغرض، لكن الشمس وقد أطلت للمرة العاشرة من خلال قطعان الغيوم التي إحتشدت في السماء منذ إنبثاق الصبح وحتى هذه الساعة المبكرة، لم تكن توحي بالسماح في التمادي مع هذه الخلوة، ثم ما لبثت تلك الغيوم أن غدت أشلاءً، تفرقت مبتعده عن بعضها البعض لتكشف عن زرقة صافية تنذر بإنحسار أدنى فرصة للتعايش مع هذه الرغبة.

  متى يهطل المطر، في أي فصل من السنة، في أي وقت من اليوم، هل من المعقول انها تمطر في هذه المدينة؟
 
طقوس مبتكرة، وأخرى مبتذلة، يأتي على آخرها هذا الدفء الذي تفشى مع أول نفير للسيارات العابرة، ألقى بجمر المنقل من فوق الشرفة وفي نزق واضح ركل (أرجيلته) بقدمه، فترنحت حتى أوشكت أن تقع، وسارع إلى قدح الشاي الذي لم يكتمل إعداده بعد، وأفرغه في بالوعة الصرف المجاورة لكرسيه الهزاز على أرضية المكان، ثم بصق على زجاج الشرفة وأنتصب واقفا، ثم غادرها على عجل، وفي نيته اللحاق بالعمل بأقل الخسائر النفسية، والمادية.

أحس بمرارة الأنتظار وسخافة الجهد المبذول في تحضير الخلوة بحضرة المطر، تململ خلف مقود السيارة وهو ينتظر أن تضيء إشارة المرور ليعبر، رمق الأجواء بنظرة فاحصة، كانت الشمس تتألق في دورتها المعتادة وخيل إليه بانها تبالغ في تألقها لتزيد من غيظه، وأن اللون الأزرق للسماء قد تحالف مع الشمس في تحد مقصود ضد تحقيق رغباته.

أضاءت إشارة المرور، عَبَرَ الطريق مسرعا وهو يلعن نشرة الأرصاد وتوقعات الطقس... ولعن الطريق المفروضة عليه في رحلته اليومية للعمل... وحتى العمل أيضا.

ركن سيارته إلى جانب الطريق أمام إحدى البقالات وترجل ليبتاع علبة سجائر إضافية، لعلمه مسبقا بأن علبة واحدة لن تفي بالغرض في التغلب على حالته النفسية، خلال فترة العمل لهذا اليوم الذي إستهله بخيبة امل وصفعه قاسية، وقف أمام البائع، تناول العلبة الانيقة للتبغ، ثم دسها في جيبه مسرعا، وهم بالخروج، كان البائع في هذه اللحظات قد أطلق العنان التلقائي لحنجرته المثقوبه بالنداء عليه للتذكير فقط... خمس ريالات من فضلك... هذه البقالة ليست جمعيه خيرية!

لطم جبهته بيده اليسرى بينما كانت يده اليمنى تبحث في جيوبه المتفرقة عن حافظة النقود، ولما لم يجدها، أخرج علبة السجائر ورمى بها في وجه البائع وخرج مسرعا وهو يزبد: نهار قاحل منذ البداية... الله يسترنا من آخره...

سيارة مسرعة مرت بالجوار مباشرة... كيف إنبثقت تلك البركة الراكده من الماء العادم أمام البقالة... لا يدري، رشقته تلك السيارة بوابل من الزخات التي تطايرت من تحت عجلاتها ثم أكملت طريقها في سرعة عجيبة، إحتقن من الغيظ، وهو يرى ملابسه وقد تبللت، ثم إنفجر بصوت مسموع: يلعن أبووووك... من أي جحيم تشكلت هذه البحيرة القذرة...! مع أنها لم تمطر... لكن... يوم نحس منذ البداية...

الشارع الطويل الذي يصله بمكان عمله، غير مزدحم بالسيارت، لكن كيف ذلك؟ إستهجن هذه النعمة الكبيرة، في مثل هذا اليوم المختلف، أشعل سيجارة، وصدح مذياع سيارته بأغنية يحبها لفيروز، فتنفس الصعداء، وأنقشعت بعض غمامات صدره، وهو يردد مع الأغنية، ويزيد من سرعة السيارة، ثم أرتطم بصره ودون مقدمات بتلك الشاخصة العريضة التي تتوسط جانبي الطريق: الطريق مغلق... حفريات... أسلك الطريق الآخر، وكانت إشارة سهم كبيرة تشير إلى طريق فرعي لم يسلكه في حياته ولا يدري حتى إلى أين يؤدي، أغلق المذياع وسحق سيجارته وهي في ريعانها، ثم قال في نفسه وهو يحاول جاهدا أن يكبح جماح غيظه: الحمدلله الآن الوضع طبيعي، ولا يدعو للعجب، فيوم قاحل منذ البدايه لا بد ان يقود إلى طريق مغلق... الحمدلله... الحمد لله.

وجد نفسه يقود سيارته في متاهه، الشارع الفرعي والتحويلة البديلة قادته إلى زقاق ضيق وحارات خلفية، لا يعرفها، تجاوز وقت الدوام المخصص بساعات، لن يصل بأقل الخسائر، فالخسارة الآن شبه فادحة... تبا للمطر... وللطقوس... و للشاي... والأرجيلة، ثم إنفجر غيظا عندما عرج على طريق مسفلتة، كان فيها الخلاص من تلك المتاهه، لكنه لم يكن يعرف أن هناك حاجزاً لإحدى دوريات المرور في تلك المنطقة بإنتظاره،

  لا بأس... الرخصة من فضلك...
  ......
  لا بأس... أي إثبات للشخصية...
  .....
  لا بأس... فقط ترجل من فضلك...

الشمس تبسط سيطرتها التامة على الاجواء، بقايا الغمام قد تلاشت تماما، صفق باب السيارة بعد ان إستقرت اخيرا في المكان المخصص لوقوف سيارات الموظفين، وسلك الممر المرصوف المؤدي إلى مكتبه، غاصت إحدى قدميه في الرمل، وكاد أن يتعثر، لم يدرك ان إحدى البلاطات كانت مشقوقة إلى نصفين، كان الرمل الناعم تحت تلك البلاطة رطبا ومجبولا بماء الخدمات الارضية، إتسخ حذاءه، وتغير لونه بالكامل، ضرب الحائط المجاور بقدمه الاخرى كردة فعل سريعة، وتحت تأثير ضغوط عصبية منوعة، إنفتق حذاءه على أثر تلك الضربة، وللصدفه، مر به مديره المباشر في تلك اللحظة، أعتدل في مشيته وحاول إخفاء قدميه، وتظاهر بالهدوء أمامه، ثم ألقى تحية الصباح... لكن مديره لم يرد، ولم يلتفت إليه، كان تهميشا تاما ومقصودا لوجوده.

تخطاه وهو يركل كل شيء يصادفه في الطريق إلى مكتبه، وهو يتمتم: لا أستبعد ان أجد كتاب الإستغاء عن خدماتي ينتظرني على طاولة مكتبي... في مثل هذا اليوم... كل شيء وارد، هز رأسه يمينا ويساراً، وقد علت محياه إبتسامة صفراء، ساخرة... ومثيرة للشفقة.

  من المفترض أن يتم تسليم المناقصة خلال الساعة القادمة، أيها الزميل العزيز...
  أعلم، وكل الوثائق والمستندات جاهزة منذ الأمس... فقط يتطلب توقيع المدير على تلك الوثائق.
  ولكن أين تلك الوثائق يا زميلي العزيز؟
لطم جبهته براحة يده، ثم ألقى بجثته فوق مقعده الجلدي خلف طاولته العريضة: الآن عرفت لماذا لم يرد تحية الصباح، يبدو أنه غاضب جداً... وبشكل شخصي.
  نعم غاضب جداً، لا مبرر لهذا التأخير في مثل هذا اليوم... هل تعلم بأن الساعة الآن قد تجاوزت العاشرة؟
  المرور والتحويلات المفاجئة على الطريق و... و... لكن أريد ان أعلم متى يهطل المطر في هذه المدينه؟ فأنت تعلم أن هذا هو الشتاء الأول لي في هذه المنطقة، وقد تجاوزنا منتصف كانون الأول بأيام!
 
رد في ضيق، وفي شيء من الغرابة لهذا البرود: تمطر عندما يشاء الله... أو لا تمطر أبدا... ما همك أنت؟ فقط أخرج أوراق المناقصة من درج مكتبك المقفل وجهزها للتوقيع، سيحضر المدير في أي وقت لتوقيعها.

  ليس المطر، وإنما الطقوس التي تحلو مزاولتها أثناء هطوله، والاجواء المصاحبة، و...
  أي طقوس وأي أجواء؟ في هذه المدينة... لا طقوس ولا اجواء... كل شيء يحدث بلا مقدمات... ويمضي بلا مقدمات... لتبقى مشاكل الطريق ماثلة، بعد كل زخة.

أظلمت خارج المبنى، خلال وقت قصير، كانت غيوم داكنة قد إحتشدت، منذرة بهطول مفاجيء للمطر، تراقصت جنباته فرحا وهو يرى هذا التحول السريع، وثب إلى النافذه، وأطلق صيحة فرح طفولية، ثم فرك كفيه وهتف في وجه زميله: ستمطر... ستمطر... أخيرا ستمطر...، أرتد عن النافذه إلى درج مكتبه بحركة سريعة، أخرج منه رزمة من الاوراق، وملفات صفراء، ناول زميله ملفا أصفر، وتأبط ملفا آخر، وغادر مكتبه في عجالة، ثم إرتد إلى الوراء نحو باب الغرفة، بعد ان تعداها ببضع خطوات:

  سآخذ هذا الملف معي، لن أعود اليوم، سأعمل عليه بالبيت... أمام لوحة المطر...
هطل المطر بغزارة، زخات متتالية ومنتظمة، تعمد السير ببطء للوصول إلى موقف السيارات، الجميع يفر في كل إتجاه ليتقي هذا الهجوم المفاجيء، تبللت ملابسه بالكامل، كان يقطر ماءً... وفرحاً، الطريق إلى البيت تزدحم بالسيارات التي تسير في بطء ملحوظ، منسوب المياه في بعض المناطق على تلك الطريق أخذ يعلو حتى بدأت معظم المركبات الصغيرة تغوص إلى حد مصابيح الإنارة، بعضها قد توقف قسرا، والبعض يغير من إتجاه سيره نحو الجانب الأقل إنحداراً للطريق، تحول المطر إلى كرات صغيرة من البرَدْ أخذ يلطم واجهات السيارات الامامية، والعلوية، تجاوز بسيارته في سرعة نسبية معظم السيارات الأخرى... وعلى الرغم من الاصوات المرافقة لزخات البرَدْ إلا انه كان يسمع بعض الشتائم بوضوح تصل إلى أذنيه، فلا يلقي لها بالاً... أدار مفتاح الراديو، وردد بصوت عالي مع اغنيه لا يحبها... احس بانها الأغنية المفضلة لديه في هذا الطقس المطري الصاخب... غاصت سيارته في بحيرة على الطريق كان العديد من الناس قد حادوا عنها إلى مسلك آخر... ثم توقف محركها... وأطلق نفيرا متواصلا أزعج الجميع، كتعبير عن إستيائه، ثم شتم سيارته، وترجل منها ليغوص حتى ركبتيه في الماء، نظر من حوله بينما كانت كرات البرَدْ تسلع وجه في عنف بالغ، أوقف سيارة اجرة، كانت تمر بالجوار، تجاوزت البحيرة بمهارة.

صعد السلم إلى غرفته بخطوه واحدة، ثم دلف إلى مطبخه الضيق، أشعل جمرا جديدا، وضع أبريق الشاي على النار، كان بين الفينة والاخرى يطل من النافذة، ليتأكد ان السماء لا زالت تجود على الأرض بخيراتها، ثم يعود لتحضير طقسه الذي طال إنتظاره، إنتصبت(الأرجيله) أمامه على الشرفة كبرج فضي يلمع في الأفق، ألقمها بعض الجمرات، سكب الشاي الساخن في قدحه الخاص، ومد عنقه إلى زجاج الشرفة ليستمتع ببدء إحتفالاته بهذا الطقس مع أول رشفة، أطلق لصيرورة نفسه العنان، تذكر كتيب الشعر، به يكتمل عقد الطقس الذي صنعه منذ قليل، نهض مسرعا إلى مكتبته الصغيرة، بحث هنا وهناك، اين وضعه بالامس؟ لم يتذكر وهو في هذه العجالة، خطف كتيبا آخر، وأسرع للشرفة، كان البرَدْ قد توقف وكذلك المطر، رجف قلبه قليلا، ولكن الأجواء ملبدة بجيش الغمام المتماسك... القوي، اخذ مكانه على كرسيه الهزاز واخذ يترقب، في قلق، تزايد قلقه عندما توهج المكان من أماهه بوهج يعرفه جيدا، كان وهج الشمس يشق طريقه من خلال فسحة صغيرة وضعيفة لجيش الغمام الذي لا يقهر، تزايد الوهج حتى إنعكس من خلال قطعان الغيوم فلم تعد داكنه، ولم تبدو السماء ملبده، ثم ما لبثت ان تفرقت تلك الجيوش إلى كتل اخذت تسبح بالفضاء مبتعده عن بعضها البعض، أخذت الشمس تجلد كل ما تبقى من فلول الغمام بسياطها الملتهبة، وكأنها تسترد هيبتها أمام الكون، لتعلن عن سيطرتها من جديد وبعد دقائق قليلة، على هذا الطقس المتقلب.

هذه المرة ألقى (بأرجيلته) من خلال الشرفة إلى قارعة الطريق، ثم ألحق بها إبريق الشاي الساخن، وموقد الجمر الصغير، ولم يفق من غضبه إلا على صوت الهاتف يتردد رنينه في جميع زوايا غرفته، رفع سماعة الهاتف كان صوت زميله بالعمل:

  أين أنت يا رجل؟!
  خير... انا هنا... كما ترى أنا بالبيت
  أين وثائق المناقصة...؟
  المناقصة؟! لقد سلمتك كل الوثائق المتعلقة بها قبل ان اغادر المكتب منذ ساعة.
  يا عزيزي ، ليست هي الوثائق... هناك خطأ ما...

رمى بسماعة الهاتف، وركض بإتجاه الطاولة في الغرفة المجاورة، تصفح محتويات الملف الاصفر، صعد الدم إلى وجهه، وشعر بقدميه لا تقويان على حمله، لقد كان كلام زميله صحيحا، تذكرعلى الفور سيارته المعطله على قارعة الطريق، الطرقات المغلقة، السيول والبحيرات التي خلفتها غضبة الطبيعة، الملامح القاسيه لمديره المباشر و... و... دفن وجه بكفيه، وصرخ من غيظه:

على الرغم من المطر... كل هذا المطر... لكنه يوم قاحــل... قاحــل.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى