الثلاثاء ٤ آذار (مارس) ٢٠٠٨
غياب كل الأسماء
بقلم رامي نزيه أبو شهاب

قراءة في رحلة دون جوزيه

لا غلو إذا قلنا أن أعمال الروائي البرتغالي"جوزيه ساراماغو" ذات امتياز خاص على مستوى التناول والعرض، كونها محصلة إبداع كاتب جدلي، نهض ذات صباح وهو في الخامسة والخمسين من عمره متجهاً إلى مكتبه طارحا قلق الكتابة معلقا على ذلك بقوله :"جلّ ما في الأمر إني نهضت في أحد الصباحات وقلت لنفسي: لقد حان الوقت لكي تكتشف ما إذا كنتَ قادرا على أن تكون ما تزعم أنه حقيقتك، أي كاتبا". انتهى به التساؤل كأفضل كتاب زمننا المعاصر ولينال جائزة نوبل للآداب بعد رائعته الشهيرة"سنة موت ريكاردو ريس"رواية أفاضت بشعرية سردية اتخذت من مدينة لشبونة موقعا وفضاء ليبتكر من خلالها تموجات حسية تنتقل عبر الورق إلى حواس القارئ فتدهشه رائحة المكان، وحساسية أطياف الشخصيات وطعم الأمكنة، كما هي في سائر أعماله الأخرى ومنها"الإنجيل يتلوه المسيح و الرؤية و العمى وغيرها.

وفي رواية"كل الأسماء"ننساق وراء عمل هش ظاهريا في زخمه السردي، حيث تبدو الشخصيات نادرة التواجد في المتن إلا من شخصية محورية ومركزية هي شخصية"دون جوزيه"الذي تجاوز الخمسين من عمره والموظف بدائرة الإحصاءات، فلا نملك في المتن البيانات المتعلقة به، فنحن لا نعرف له ماضيا أو حيثيات باستثناء ما يخبرنا به السارد كونه - دون جوزيه - أعزبا و موظفا في دائرة المحفوظات العامة، هذه الدائرة والتي يصفها لنا الكاتب ضمن مشاهد تتخذ من الصورة البصرية محاولة متخيلة لنقل التأثير المكاني على المتلقي الذي يسقط في هذا الحيز كما هو (دون جوزيه).

غياب الاسم / غياب الوجود

"دون جوزيه"المختزل في اسم يحمله بمثابة علامة لغوية، ولعل هذا الاختزال المتصل في سياق صفة الوجود؛إذ أن الاسم دليل الوجود المتحقق فلسفيا، فالاسم:"ما وضع لشيء من الأشياء ودل على معنى من المعاني جوهرا كان أو عرضا، وهو ما يكون علامة للشيء يرفعه إلى الذهن من الألفاظ والصفات"ولذا فان غياب الاسم يعني غياب الوجود، ومن هنا فقد كان الاختزال المقنن لاسم جوزيه دلالة على الوجود المقنن والطارئ لقلة توافر الأسماء المدعمة لهذا الوجود، أو لضآلة قيمته – أي الأسماء- في مستوى كينونة الإنسان.

وعلى هذا فان (دون جوزيه) منتقص القيمة إنسانيا، وهذا نابع من القيمة التي تمثلها هذه الشخصية في محيط بنية العمل الروائي التي تقصد إلى إصابة عمق بعيد في بعث التساؤلات حول حيز الإنسان في محيطه، فهو أقل ما يمكن بحيث يكتفى للتعبير عنه بعلامة لغوية تحيل عليه:"عندما يُسأل دون جوزيه عن اسمه، أو عندما تتطلب الظروف أن يقدم نفسه، أنا فلان الفلاني، فلن يفيده في شيء النطق بالاسم كاملاً لأن محادثيه لن يحتفظوا في ذاكرتهم إلاّ بالكلمة الأولى، جوزيه، والتي يضيفون بعد ذلك كلمة ـ دون".

هذا الاسم لا يعني شيئا في حقيقة قيمة الأثر والأهمية من منطلق أن الإنسان هو مجاز متبدد في سديم غرائبي لا يعير لم كان عليه أو ما سيكون، وخاصة إذا كانت حتمية توافره على سطح هذه الأرض سيختزل إلى ورقة محفوظة في سجل، و"دون جوزيه"مع كل ذلك حريص على أن يكون موظفا مثاليا في المستوى السطحي والعميق على حد سواء، ولكن في مسافة خاصة مغلقة ومظلمة يتم من خلالها انتهاك هذا التكوين في الخفاء، ولعل في هذه الجزئية البسيطة يهدف ساماراغو إلى تحميل مقولة فلسفية إيصال محتواه إلى المتلقي مفادها أن الكون ليس نسقا واحدا قارا مسيطرا، فعلى الإنسان أن يخترق النسق الذي اعتاد عليه حيث الانحياز لحالة المقاطعة لكل ما هو بحكم المنتهي، وهكذا ينخرط"دون جوزيه"في مغامرة تساق له عبر الصدفة، حين يكتشف بطاقة امرأة لم تكتمل أوراقها أو المعلومات عنها، وهنا تتخذ الصدفة موقعها في إشارة إلى ضآلة مصير الإنسان في مواجهة المصائر المصطنعة من قبل الصدفة في دائرة الحدث، فهذه البطاقة يتم اكتشافها حين تكون ملتصقة ببطاقة أحد الشخصيات الشهيرة التي يعمل على دون جوزيه على جمع المعلومات عنها لأرشفتها، وهي هواية بريئة تبدو كنسق خارق لبنية الكون الصلد لعالم دون جوزيه.

العشق في شكل الغياب

تتخذ الهواية بعدا خطيرا-فيما بعد- حين يصر"دون جوزيه"على استكمال المعلومات عن هذه المرأة على الرغم من هاشميتها وابتعادها عن مركزية الضوء، إنها نموذج لاغتراب الإنسان في عصره، هذه الغربة تحمل قراءة في مستوى آخر، حيث يتخلص"دون جوزيه"من سطوة المشاهير لينحاز إلى الكائن البسيط المتماثل والمتشابه في أي مكان وزمان، كما هي هذه المرأة المجهولة.وهنا نعود لجزئية الاسم حيث يتم الالتقاء بين مستويي الحضور الغياب، حضور"دون جوزيه"المنتقص وغياب المرأة (المتوفاة) – المكتمل فيزيائيا، ولكن"دون جوزيه"يبني على بعض هذا الحضور ليكون ضمن عملية حلول جديدة في ذات دون جوزيه العقيمة، فيبدأ رحلة شاقة وخطرة ضمن إحداثيات عالم"دون جوزيه"في اكتناه عوالم هذه المرأة وأسرارها، والتي يبدو أن الكاتب قد تورط معها بعلاقة حب سريالية على الرغم من غيابها، هذا الغياب المبرر بالموت ولكن الحاضر كفكرة سكنت دون جوزيه، وهنا توق إلى تجاوز الحدود الثابتة في قراءة معنى حياة الإنسان، وانطلاقا من ثيمة البحث ولا شيء سوى البحث عن معنى وجوده( دون جوزيه)، فتقوده رحلته الشاذة والمريبة إلى المقبرة و أجوائها، لينسج ساراماغو مقاطع قادرة على أن تشي بجمالية التناسق الحركي واللغوي في حركة الشخصية، يتخللها لذة قرائية يتذوقها المتلقي مقاربا نمطا أسطوريا كما في رواية"سنة موت ريكاردو ريس".

رحلة المرأة المجهولة مجسدة ومستعادة برحلة البحث التي يقودها دون جوزيه مرة أخرى، فتعاد مرة أخرى إلى الحياة، و في إدراك حقيقة هذه المرأة المجهولة والمعشوقة ضمن تصورات حالة سريالية شهية تبعث إغواء لذيذا، فهذا الغياب للمرأة مفتعل وشهي للقارئ في إثارة اللعبة التشويقية حول التساؤل عن ظهور هذه المرأة في المتن الروائي، ومحاولة بناء صورة متخيلة لواقع هذه المرأة المعشوقة، التي عمل"دون جوزيه"على وضع أركانها وأشكالها ورائحتها.هذه الفيض في التعاطي مع الغياب، وجعله متجسدا على مستوى الحضور، هو رؤية فلسفية تكمن في الواقع الأيدلوجي لأفكار ساراماغو المنبعثة من إلحادية حقيقية فيما وراء الموت، وممارسة عنيفة في البنية اللغوية والفكرية وإستراتجيتها.

لا مناص من الغياب

هذا السحر للكاتب البرتغالي شديد التمكن في عمق عمليين روائيين، كان فيها لحضور الغياب مبرر كاف في البنية الروائية كما في رواية"سنة موت ريكاردو ريس"و"كل الأسماء". فالكاتب شديد الصلة بهذه العوالم لشخوصه المنتهية على صعيد تواجدها كلحم ودم، ولكن في بنية الكلام فهناك الكثير من التماثلات بين رواية"كل الأسماء"و"سنة موت ريكاردو ريس"، فكلا الروايتين تشهدان حضورا لشخصية غائبة بفعل الموت، ولكن حاضرة الأثر وغالبا ما يتبدى هذه الحضور على انعكاس سافر في الشخصيات الأخرى التي تعمل على خلق تواجدها عبر تماه منعكس في الشخصية الحاضرة وإن كان في رواية"كل الأسماء أكثر عنفا حيث تتطابق الشخصية الغائبة بتمظهرها في وعي"دون جوزيه"ورؤيته للحياة والقيمة المتحصلة لوجود الإنسان في هذا العالم الذي يعمل على بناء آلية للتعاطي مع ثيمة الوجود والعدم، كما في رواية كل الأسماء في وصف بسيط ولكن شديد العمق لفكرة الإنسان، حيث تقسم دائرة المحفوظات بطاقات الأحياء في المقدمة بينما تضع بطاقات المتوفين في الخلف، وتمتد المسافة يوما بعد يوم ليصبح البحث في الأبعد وفاة أكثر صعوبة وخطرا و مشقة، وهنا قراءة حذقة لمعطى الإنسان حين يتحول إلى كيانه إلى خانة أو حيز مكاني ينتهي به ضمن مجموعة من الأوراق تشرف عليها دائرة بيروقراطية، فلا يبق من معطياته الحياتية سوى مجموعة من البيانات، وتختفي متون وهوامش الإنسان ورحلته بماضيها وأحلامها وحتى فيزيائيتها التي تكون الأقل تضررا من جراء الموت:"المرأة ماتت ولم يعد بالإمكان عمل شيء، سأحتفظ بالملف والبطاقة إذا ما أردت الإبقاء على ذكرى ملموسة من هذه المغامرة، وسيكون ذلك بالنسبة للمحفوظات العامة كما لو أن المرأة لم تولد في الأصل، وربما لن يحتاج أحد إلى هذه الأوراق، ويمكن لي أن أتركها كذلك في أي مكان من أرشيف الموتى، عند المدخل، إلى جانب أقدام الأموات، فسيان تركها هنا أو هناك، والقصة متشابهة بالنسبة للجميع ولدت وماتت ومن ذا الذي سيهتم بها الآن بمن كانت".

حقيقة تكتسي طبيعتها وحيويتها في الإقرار من لعبة سردية نسجها"ساراماغو"وسلم بها"دون جوزيه"ببساطة.إن دون جوزيه"نموذج التأملات الفسلفية المتصدرة المتراكبة المبسطة ضمن حبكة روائية مثقلة- على صعيد المقولات الفلسفية والفكرية- وهشة رقيقة على صعيد البنية السردية، ولعل هذا السر في جاذبية أعمال ساراماغو وحيويتها.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى