الثلاثاء ٤ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم بسام الطعان

القنبلة النووية

بخطوات واثقة دخل إلى سوق المواشي وهو يمسك بكتف التيس، تقدم نحو دلاّل المواشي العجوز وصاح:

 تعال يا "عويس" وقدّر ثمن هذا التيس.

سقط في دوائر الدهشة حينما رآهما، وقف حائراً دون أن ينطق بحرف وكأن لسانه قد شل تماماً، وبعد لأي قال:

 أين هو التيس؟

 ها هو، ألا تراه أمامك؟ انظر إليه جيداً يا عويس.

تطلع إليه وهو يغرق في دوامة من الهواجس ، ثم راح يتفحصه من الجوانب كافة، أما التيس فكان واقفا, يفتح عينيه، يقاوم موجات النعاس، ويخفض رأسه دونما حركة أو التفاتة لعويس الذي كانت نظراته مثبتة عليه:"معقول أن يكون تيساً؟ يبدو أنني لم أعد أعرف أن أميز بين الحيوانات".

 ماذا بك يا عويس، هيا كم ستدفع لي؟

ربت على كتف التيس ومن ثم ظهره واللعاب الممزوج برائحة الدواب يسد حلقه:" هل خرفت حتى لا أعرف التيس؟ شيء غير معقول! فأنا منذ سنوات طويلة أعيش في هذا السوق وقد بعت واشتريت آلاف المواشي، ولكن الآن لا أعرف ماذا أصابني".

 بماذا تبرطم يا عويس؟ قلت لك قدّر ثمنه ولم أقل تكلم مع نفسك.. كم ستدفع لي يا عويس؟

لم يذكر له المبلغ الذي يسـتحقه التيس الواقف أمامه والذي يخفض رأسه ولا ينظر إلى الآخرين ، وإنما راح ينظر إلى التيس بعينين براقتين:"بالتأكيد أنه تيس حقيقي وإلا لما جاء به إلى هنا". فرك عينيه ليتأكد من أنه فعلاً يرى التيس وهو مغطى بجلابية مخططة بالأزرق:" لا، لا ، يخيّل إليّ أنه يرتدي الجلابية , يا ويلك يا عويس ستصبح أضحوكة لأصحاب المواشي على الرغم من أنك قضيت نصف عمرك مع المواشي، تأكل وتنام معها، يا حيف عليك يا عويس".

 لماذا تتحدث مع نفسك كالمهبول يا عويس؟

حدّجه بنظرة حاقدة وغاضبة، ثم قال بصوت خفيض كي لا يسمعه من في السوق:

 بالله عليك, أنت متأكد من أن هذا الذي أراه أمامي هو تيس حقيقي؟!

 وهل هو مزيف يا رجل؟ يبدو أنك في طريقك إلى الجنون، هيا قدّر لي ثمنه ودعني أذهب إلى بيتي وأنا مرتاح البال.

لحظتئذ صاح "عويس" كل من في سوق المواشي:

 تعالوا يا ناس أرجوكم، فلا اعرف ماذا أصابني.

 ماذا بك يا "عويس؟ قالها عبدو التاجر.

 انظر إلى هذا، هل هو تيس أم بني آدم؟

تطلع إليه الرجل ثم إلى الدلال وما لبث أن انفجر ضاحكاً:

 هل جننت يا عويس؟

 انه تيس يا عويس.. تيس ويرتدي جلابية. قالها "عواد" القصاب وهو يكاد يرتمي أرضا من شدة الضحك.

أضاف "خلف" سائق (الطرطيرة):

 اشتريه يا عويس، ستستفيد منه، اشتريه وأنا سأوصله إلى بيتك مجانا.

لكن "فرحان" ابن عم عويس اقترب وقال وكأنه اكتشف معجزة:

 لا يا عويس أنه بني آدم وليس تيساً.

انتفض الرجل وقال بغضب حقيقي:

 يا لك من فهيم، يبدو أنك قد جننت مثل ابن عمك!

 أنت مجنون وتريد أن تبيع ولدك!

 لا لست مجنونا، وهذا الذي ترونه أمامكم هو تيس بشحمه ولحمه، إنه تيس يا عالم، اسألوني أنا, اسألوا أمه وهي ستبصم بالعشرة.

فجأة جلس على الأرض بتراخي وأضاف:

 انظروا إليه يا ناس، انظروا جيداً إلى هذا التيس، لماذا لا تريدون أن تصدقونني؟

بعد صمت طويل راح "عويس" يرغي ويزبد ويوزع شتائمه في كل الأرجاء, وبعد أن هدأ قال:

 لقد جعلتني أشك في قدراتي العقلية يا رجل، أبعد هذا العمر تريد أن تجعلني مسخرة لأصحاب المواشي يا خرتيت؟ ثم لنفترض أنه تيس حقيقي ولكنه لا يساوي فلساً، انظر إليه، بربك هل هذا بني آدم؟

ـ ها ها.. ها أنت قلت بعظمة لسانك أنه ليس بني آدم, إذاً أنه تيس ويجب أن تشتريه.

 قل لي لماذا تريد بيعه وأنا سأشتريه في الحال.

طلب منه الجلوس إلى جانبه، ثم طلب من الجميع الاستماع إليه:

 أنا يا ناس كهل وفقير، أخرج من منزلي في الصباح الباكر لألتقط رزقي من هنا وهناك، حيث أعمل في أي شيء ، مرة عتالا ومرة أشتغل في الحفريات حتى تقوض ظهري ، ومرة أنقل الماء للمقاهي والمطاعم لقاء أجر زهيد، رغم ذلك لم أشعر بالتعب أو الضجر، أما هذا التيس فهو دائما يأكل وينام، ولا يصحو إلا ليأكل وينام من جديد، بعد سنة سيذهب" للعسكرية" ولا يعرف أي شيء غير النوم، وما أن ينام حتى تدوي صفارات الإنذار، وبعد لحظات يبدأ الهجوم الأرضي، ثم يبدأ القصف الجوي على أشده، يصب الحمم علينا ونحن ليس لنا ملجأ نحتمي فيه، ولا نستطيع أن نفعل شيئا سوى أن نصغي إلى الانفجارات ونشم رغما عنا الروائح المنطلقة من مدفعه العتيد، وبعد أن يهدأ القصف نفتح الشبابيك والأبواب لساعات طويلة، هل تصدقون انه يستطيع أن يجعل هذه البلدة تستنفر وهو نائم؟

مسح عرقه المنهمر بغزارة من رأسه ورقبته بكوفيته وأضاف بسخرية وقرف هذه المرة:

 الحمد لله إن النظام العالمي الجديد لم يعرف شيئا عنا، وهذا فشل ذريع له، فلو عرف لكان قد وضعنا تحت الحصار لسـنوات طويلة.

توقف للحظات ريثما يلف سيجارة من علبته الحديدية، وعندما سحب نفساً عميقاً أردف:

 الأمريكان واليهود يمتلكون القنابل النووية وهم ليسوا أفضل منا، فنحن أيضا لدينا قنبلتنا النووية وهذا التيس هو أبو القنبلة النووية .. ذات مرة تناول في العشاء طنجرة كاملة من "السميد" المخلوط بالشعيرية ، وصحنا كبيراً من المعكرونة، ثم تناول أكثر من كيلو غرام من الفستق البلدي، وكنت قد أحضرت إلى البيت زجاجة من الحجم الكبير من الكوكاكولا، أعطاني آباها"عبد القادر" السمان جزاه الله خيراً، وما أن لمحها هذا التيس حتى كرعها دفعة واحدة ولم يقل الحمد لله، ثم نام وهنا تكمن المصيبة، فلم تمض دقائق معدودة حتى بدأ القصف من جديد، أنا تحملت مكرها، لكن أمه المسكينة لم تقدر على البقاء في البيت، هربت إلى بيت الجيران وتركتني مع قنابله الذكية ، لا الجرثومية التي لا أريدها لعدوي.

نظر إلى التــيس الذي كان قد ذهب في إغفاءة وهو واقف:

 وبما أنني لا أريد الفضيحة فقد جئتك يا عويس لتشتريه مني ولك الأجر والثواب.

فجأة هب "عويس" واقفاً وقال بغضب مرعب:

 ألا تكفيني رائحة الأبقار والأغنام والماعز حتى تريد أن تطوقني برائحة التيوس، اغرب عني أنت وتيسك هذا، فعلاً أنه تيس حقيقي، وتيس كيماوي ، ثم ابتعد عنه وقد امتلأت نفسه بهديرٍ قاسٍ مثيرٍ للأعصاب.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى