الثلاثاء ١٨ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم زكية خيرهم

حرية...حرية

حين يفاجئك مساء أوسلو في فصل الشتاء دون أن يطرقَ الباب، يلون كلّ ركن في المدينة بظلامه الدامس، فتصبحَ كمحبرة سوداء ينتشر ظلامها الحالك واصلا قلبي الذي يرتجف من عاصفة ثلج مدججة بجحافل برد قارس يزيد غربتي وحدة ووحشة.عواصف قادمة من أعماق القطب فتملأ حجرتي صقيعا، وتتسرب إلى سريري قشعريرة فتصطك أسناني، فأقوم أجرّ رجليَّ إلى حانة محمود المغربي. أجلس في مكان لم أغيره منذ ثلاثين سنة.

بأي كاس سأطفىء ظمأ يشتعل في داخلي نحو فريسة أبحث عنها منذ سنوات تقترب من سبعة وعشرين. غبار الزندقة حجب الرؤية عن عيني سنين طويلة عند مفترق كل الطرق، فأصبحت كأمي أتخبط على غير هدى. كل ليلة اضع رأسي على وسادتي...التي حشوتها أحلاما وآمالا كثيرة للعثور عليها عندما نضع رأسينا على وسادة ونحلم سويا في عش لا نافدة فيه لأتجسس على رائحة ما يطبخه الجيران.

سئمت من هذا المكان وسئم المكان مني... لم أعد أطيقه. نفس الكراسي... نفس الطاولات... نفس الوجوه... منذ كانت في طيف الشباب وهاهي الآن تطل على مقتبل الشيخوخة. لا أريد أن أنتهي عجوزا وحيدا.

ماذا تريد أن تشربَ يا سيد فؤاد؟
ولم هذا السؤال الغبي؟ البيرة كالعادة.

ذهب النادل مبتسما ليحضر طلبي. أما أنا فكنت اتأمله... أذكر جيدا عندما جاء إلى هذه الحانة. شريدا، خائفا، هزيلا، جائعا، وحيدا، غريبا، من غير أوراق قانونية. ها هو الآن متزوج من نرويجية وانجب منها ثلاثة أولاد، كلهم يدرسون في الجامعة. كيف توفق هذا الوغد اللعين! تبا للقدر الذي يعطي لمن يشاء وما اشاؤه أنا يعتذر القدر عن أن يمنحه لي ولو في الأحلام. سبعة وعشرون عاما مرت كلمح البصر، وأنا مازلت أتسكع في شوارع أوسلو من خمارة لأخرى، ومن مطعم إلى آخر، ومن بيت دعارة لآخر، ومن فتاة شقراء إلى أخرى. سئمتهن كلهن، وسئمت تفتحهن الزائد عن الحدود، وسئمت تغنيهن بحريتهن الكاذبة، والمساواة... اي مساواة واي هراء! متى إستوى الرجل بالمرأة؟ هذا ما تبقى أن ندخل إلى المطبخ ونغسل الأواني ونربي الأطفال وهن يتصعلكن خلف طاولات المكاتب.

جلس يستعيد سراب العمر... يتشكك... ثم ينزوي حيث رعشات الأمل تحارب اليأس في شفافية خاسرة ليلجم نزعات نفسه بجرعات كبيرة من البيرة. ها قد حان فصل الشتاء ببرده القارس وثلجه الزاحف على الجسد فيجعله متبلدا...جامدا... من غير إحساس. لابد أن أتزوج من امرأة أستقر معها... ندفء بعضنا...ننجب أولادا وبناتا... لا... لا أولادا فقط. لا أريد البنات. سيضعن في هذه الحرية المفتوحة بلا حدود... حرية الزندقة والصعلكة. يجب أن أتزوج امرأة عربية مسلمة. ولابد أن تكون مغربية من بلدي وأن تكون بدوية وليست مثل اللواتي يتسكعن في مدن المغرب. بنات المدن منفتحات... أريد بنتا من البادية. متحجبة، محتشمة، قانتة، صالحة، لا تعرف الصعلكة، كلهن صعلوكات، خاصة من يحسبن أنَّهن مثقفات. أي ثقافة وأي علم! جهل في جهل وظلام في ظلام... تبرج وكحول وتغيير الرجال كتغيير ملابسهن الداخلية. قبحكن الله أيتها النساء في العالم كله. أريد امراة مثل أمي. هي الوحيدة في هذا العالم الطاهرة العفيفة. أمي هي التي ستجد لي زوجة صالحة مثلها. لابد أن أسافر إلى المغرب. غمرته فرحة عابرة حينما توقفت عاصفة أفكاره الهوجاء فجأة، أو أنه ظن ذلك...

سافر فؤاد إلى الدار البيضاء، يومها أراد أن يغني... يرقص... رجع أخيرا إلى الوطن بعد غيبة طويلة... منذ زمن الشباب وهاهو الآن في الخمسينيات من عمره.... كل شيء تغير كتغير تقاسيم وجهه... الآن يحس بشوق وظمأ شديدين لرؤية أمه، التي لم تسعها الفرحة لرؤية ابنها.

أخيرا ستكون له أسرة قبل أن تودع الحياة. إغروقت عيناه وهو مازال معلقا في سماء المطار.... بات الهواء مخنوقا بالبكاء الرابض على أطراف حلقه... " لم هذه الأشواق تتفجر في قلبي فجأة... شوق لأمي... لوطني... لهذا الهواء الساخن الذي يذيب ثلج سنين غيبتي...!" ركب فؤاد الحافلة من المطار إلى ضيعته... كم كان مرعوبا في تلك اللحظة بالذات... دموع تنزل من عينيه كالطفل خائفا أن تباغته أمه برأسها المطل من وراء الباب، فتلعن السهر والدمع....وتلعنه... بل تلعن أوراق العالم وأقلامه....

يتطلع من خلال نافدة الحافلة... آه ما أكثر الأشياء التي تركتها ورحلت... كم كنت قاسيا مستبدا من غير قلب يحس... وضع يده على صدره وكأنه يريد أن يتحسس إن كان لديه قلب كباقي الناس....قلب ينبض فعلا... يعزف أحاسيس جياشة لسمفونية تبتدىء من حافات الأزل البعيد.

كانت أمه تطل من النافدة...تنثر نظراتها على اشعاعات الضوء الأول... تنتظر ابنها بعد غيبته الطويلة وبعدما جفت مآقيها. فها هي الآن تشعر بطول الوقت في لحظات الانتظار... لم يعد هناك خوف يحرسها من وحدتها ووحشتها... عيناها تشعان بالفرح وهي تراه مقبلا من سحب يكسرها الرعد... من جبال يغطيها الثلج ومن ليال تعثرت في نصفها النجوم. ضمته إلى صدرها بكل حب الأمهات... في لحظة بين الصمت والرجاء... بين العتاب والبكاء... بين الفرح والشكر لله الذي أرجع ابنها إليها لتطمئن على مستقبله العائلي قبل أن تغادر مسرح الحياة.

اختارت أمه الفتاة المناسبة، فتاة أحلامه... أقام حفلة الزفاف... لم تسعه الفرحة... لم يعد يفكر في شيء... حتى أنه خجل من رغبته في البكاء. كان همه أن يبدو أنيقا أمام زوجته ذات الجمال الغاوي. اكتحلت عيناه بنور حداثة سنها... صبية في السابعة عشر من عمرها.... غجرية لا حدود لفتنتها... تنساب مع نبض الحياة....مع خرير المياه المناسبة في الجداول...مع ظل الأشجار....

جاءت صاحبة الحسن والدلال والخلق المصان إلى النرويج... إلى أسلو... بهرها جمال الطبيعة، و أثارها لون أهل البلد الذين يشبهون الدمى بعيونهم الزرقاء كلون اليم في هيجانه. كل شيء يشع بريقا... نظافة لم تعهد أن رأتها من قبل. لا حجارة ولا غبار... لا حمير ولا أبقار... لا قحط ولا جفاف... سكنت مع زوجها في غرونلاند. أعجبتها المنطقة إلى حد الجنون... أعجبها كل شيء فيها... ألوان الناس وأشكالُهم... زيُّهم وضجيجُهُم... أولادهم الذين يتسكعون بين الأزقة... هذه هي الجنة وإلا فلا... أين كنت أعيش أنا وإلى أين جئت...؟! يا الله كم نحن لا نعرف شيئا عن العالم الآخر...! إنه فعلا عالم لا يرى إلا في الأحلام....
أحست بزهو.... فرحة عارمة تجتاح روحها... يستهويها منظر الثلج يتساقط بخفة وكأن أسرابا من الحمام خلعت عنها ريشها ونثرته في الفضاء... هكذا سأبقى في ارتفاع دوما... انا غير كل نساء ضيعتي وإلا لما اختارتني أم فؤاد زوجة لإبنها...

حبيبتي أعرف ان كل شيء جديد بالنسبة إليك وقد تشعرين بشيء من الغربة. لكن، لا تخافي اعرف هنا عائلات كثيرة ومحافظة من شتى الأجناس المسلمة. سأعرفك على عائلة مغربية. أعرفهم جيدا. ستساعدك الزوجة على التأقلم في هذا المجتمع. إنها امرأة محتشمة وبنت عائلة مثلك.

تعرفت (صابحة) على الزوجة المحتشمة، وساعدتها على التأقلم وأشياء كثيرة... كثيرة جدا... فأصبحت متفتحة ومنفتحة... تعلمت اللغة... وعرفت ما لها وما عليها حسب قانون البلد...فأصبحت تتمتع بكل حقوق البلد الواقعية والخيالية أيضا، وذاقت طعم الحرية والتقدم والعصرنة، فخالت نفسها طاووسا لا مثيل له في الحسن والبهاء. وأن زوجها يكبر اباها بخمس سنوات ولا يتقن اللغة النرويجية. لم تعد صاحبة الحسن والدلال تطيق العيش معه. أصبحت حياتها معه تمزق أحشاءها الملتهبة، فأصبح يومها الذي تقضيه في البيت كبيرا بحجم البحر وأمست لياليها مؤلمة وأمرَ من حنظل نهارها. اعتصرتها الآلام، عش يملكه غراب عجوز يعجز عن منحها ما تريد... تريد أن تسافر إلى الغرب والشرق عبر الفضاء واليم وترى مالم تره ولو في الأحلام... تريد أن تخرج إلى مطعم مع زوجها وتجلس جلسة رومانسية تشعرها بأنوثتها...تريد الصخب...تريد المرح... تريده عندما يرجع إلى البيت أن يداعبها ويضحك معها ويحدثها ويضاجعها.لم تعد تتحمل روتينية حياته...من العمل... إلى البيت... ثم إلى غرفة الإستقبال. انتظرته حتى رجع من عمله الأول في حياته بعد أن تزوجها... فتربصته كلبؤة جائعة مريضة...

أريد الطلاق.
لماذا؟
لم أعد أتحمل القرف الذي أعيش فيه. إنني اختنق. جارتي سافرت إلى الدانمارك وصاحبتها إلى تركيا وأنا لم أسافر حتى لزيارة أهلي، حرمت من لقائهم خمس سنوات منذ زواجنا. وليس بمقدورك أن تفعل شيئا حتى أن تخصب في أحشائي جنينا يؤانس وحدتي. إنني أختنق في قفص الدجاج هذا الذي يدعى بيتك.

الآن أصبحت ترينه قفصا بعد أن كان في عينيك قصرا. لا والله سأرجعك من حيث أتيت. إلى الدجاج... وإلى البراري الواسعة وإلى الحمير والبغال وإلى رعاية الأبقار يا قح...
لا تقلها وإلا ناديت لك البوليس.
البوليس! أين البوليس؟ أعشق البوليس... أموت في السجن... أتوق إلى المشنقة... يا عاصفة اللؤم.. يا ناكرة الخير...يا رجس الشيطان...يا وجه الشؤم... يا مجلبة الهم...يا يوم النحس... إقترب منها كأسد جسور... مكشرا عن أنيابه... وهي تبتعد عنه بخطوات إلى الوراء...تنظر إلى الغرفة الموصدة بابها.... وكأنها تبحث عن منفذ للهروب....صمتها عميق.... صراخها حبيس.... ستائر شباك الشقة مرخاة....ترتعد فرائصها... لا من مغيث ينقذها...تتمنى لو يرجع بها القدر سويعات لتعدل عما قالته ولترضى بحياتها معه...

تتخيل نفسها صغيرة تلعب مع اطفال ضيعتها... ترشق الدجاج بالحجارة.... تتخيل أمها تحلب الأبقار... طعم الطاجين بالخضر والزيتون... ذلك اليوم الأول الذي أتت فيه إلى عش زوجها....شقتها النظيفة الصغيرة....لباسها المختلف عن لباس الضيعة...الماكياج المبعثر على خزانة صغيرة بغرفة نومها... فساتين نومها الشفافة التي لم يعرف جلد جسدها طعمهم الحريري الناعم... تنظر إليه بعينين... نادمتين... خائفتين... جاحظتين... مبللتين...مرتجفتين...عينان تصرخان بكل أنواع اللغات وبكل أنواع الأحاسيس...بل بكل أنواع الخوف والندم. أما هو فكان يقهقه بصوت مرتفع... ينظر إليها والدموع تفيض من صدره... لا يعرف مصدرها... تساؤلات تنطلق من أغوار غريزة... سخيفة....سحيقة...طبيعته الحيوانية تقلع سلوكه الحضاري...تعمي عينيه...يقترب منها... مبرزا كل عناصر القوة من مخالب وأنياب وقرون وفي غفلة من ذلك الطقس الكئيب.... توقف الزمن على سريره... توقفت أصابعه على خيوط طفولته... وسراب شبابه الذي ما كان إلا هلاما من أطياف الضياع والكآبة... يتخيل طعام أمه من يد زوجته... أكل بلده...في غربته... دفء زوجته رغم رداء الثلج الذي يلبسه...تمناها لو لم تقل ما قالت... لو عدلت عن الكلام... يخطر بباله ليلة عرسه... يتحسر على همه الموبوء من أول تاريخ وعبر كل صباح... كان نبضه يغوص في الهذيان... يستجدي أطيافا تمر من هنا وهناك....كزوجته تماما...فالعودة صارت مستحيلة.

في تلك اللحظات الحاسمة... كانت تقول لنفسها خسرت جنتي بيدي... لا أريد شيئا... لا تقتلني... أفضّل العيش معك ألف مرة على أن أعيش في ضيعتي بالمغرب... لا أريد حرية... ولا سفرا... أريد فقط حياتي... وأريدك في حياتي... كل ذلك الحوار أبى الرعب أن يدعه يخرج من فمها لتنقذ حياتها من الهلاك....كانت ترتجف... ترتعد... جسمها يتلاشى ويتساقط شيئا فشيئا وهي تحاول الإبتعاد عنه... تحاول الهروب منه... لكن كيف لحمامة مقصوصة الجناحين أن تفلت من براثن الصقر. وأطبق يديه المتجعدتين أخيرا على عنقها النحيل بكل قوة إلى أن جحظت عيناها وسافرت بروحها إلى عالم حريتهـا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى