الأربعاء ١٩ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم خير الدين بن الطاهر جمعة

أمنيات مُخملية لامرأة ماتت فجأة

كان ظلاًّ في قرية"المرقوم" [1] الساحلية جنوب تونس، كان زمنا مخاتلا يسيل من جبال البربر الطينية نازلا حتى يُلْقي بأحماله في وادي"الحاصَّة" [2] الأفعواني وكان الوادي يتمخَّض على ساحل البحر فيُلقي بكل عنفوانه رؤوسا ورياحين يجمعها على طول تاريخه الطويل فُتْرِعبك على المصبِّ أنياب فيَلَة حنَّبعل [3] وحطام سفن الفنيقيين وعقود"بن عياد" [4] المشبوهة ورائحة شَعْر أمي عندما أعانقها وأنا صغيرة بذلك المزيج من زيت الزيتون والخَرُّوب والحناء والروعة المزمنة في قريتي الغافية منذ زمان، حيث دفءُ الترابِ بلون الروح والفناء واللذة.

رَجُلِي ذاك أحببتُه بلا رحمة، رَجُلي الهادئ ساحرٌ بنظراته الحريرية وبحبِّه الصباحي، لم يكن آدميا كان كائنا من ماء وكلام ووعود، صحِبَني حتى نصف الطريق، كان بفرنسيته الرشيقة التي نفضت لتوها غبار الحرب العالمية وابتسامته الخجول أقرب إلى ملاك من شَهْدٍ وأثير، الرجل الذي أحببتُهُ كان كحفيف الشجر في الخريف وكعناق النوارس للماء في الصيف، يدخل عليَّ فينشر صباحاته في كل الأرجاء والذكريات، كلامُه كحكايات الأطفال وعذوبة ادعاء الرجال وحلاوة كذب النساء، الرجل الذي عشقتُ قتلني يوم أحببتُه وجُنِنْتُ يوم تركني....أحببتُ فيه عينيه اللوزيتين وعطر الثلج الأوروبي المختال تحت قميصه، أحببتُ فيه وفاءه لامرأة الشمع والبلور"مارتين"زجاجته اللدود، عشقتُ فيه غدره الخجول بي ووفاءه اللذيذ لها، عشقتُ فيه عبثه بجهلي الجميل وصبره على ثقافتي الراكدة..تركني ذات يوم شِتوي، مزق حياتي ظلالا من الدموع ملَّحَتْ جراحي على خدودي، ولعقتُها في ليل الكلاب السائبة بكيْتُه حتى تقرّحَتْ أجفاني وتورَّمَت ْفأصبحتُ أرى العالم من وراء صقيع ذكرياته، كرهتُ فراشي الحديدي المظلم البارد الصامت الذي كان يتورد كل ليلة من صخب أحلامه وهَسْهسة شعره الليلي على الملاءات.

على سريري البائس وبفم طعمه ترابي والدنيا ذابلة من حولي ووجعي راقص في غرفة صفراء بلونٍ رمادي، هالةٌ تتأرجح، أعضاءٌ كاذبة، خائنة في هذا الرمق الأخير، ذلك السرير الحديدي تركني هو أيضا، سمائي بلون السقف، آه يا زوجي موتُك القديم يتراقص أمامي، سريري البني الحديدي وحده يفهم تساؤلاتي هو من احتضن حياتي كلها، كم أفتقدك يا زوجي بموتك المعتَّق كنتَ تحنُّ إلى أيامك المخملية في فرنسا، شبحك ظل يراودني بضعة عقود متورِّمة بطعم البؤس والريح، كم كانت حياتي طويلة وعطشِي....

كان الثعبان الأبيض يطل عليَّ مبتسما وشجرة الحناء تحييني متراقصة عندما

دخلَ ِظلٌّ من ظلال زوجي وقد أنهكته سُمرتُه وحياته الكاذبة، عيناه تسألاني بصمتٍ، يدخِّن مثل أبيه بنهمٍ يريد أن يكون عتيقا مثله، يسألني عن حالي بنظرةٍ منفلتة..أنا لا أنظر إليه.. يجلسُ عيناه ترسمان دوائر من قلق على الأرض، ينهض واقفا ثم يخرج حاملا معه حيرته الجرداء دون أن يسألني عن فراشي القديم البني الذي رسم عليه زوجي موته العتيق وكلامه الليلي المجنون في شتاءاتنا الدافئة..

الصباح الأبيض يُدخِلُ الظلَّ الفتيَّ حجرتي الصفراء، يصافحه سريري الغبي بلامبالاة، نظرتي الشاحبة تخنق الغرفة، فوق الفراش يتمدد خيط جسدي الصامت، تتطلع عيناي إلى ذلك الظل فيبادلني النظر والبهجة الكاذبة، يخذله حزنه بنومه الخفبف فيقاوم أسئلتي الصامتة ويجيبني:

  لقد أفطرْتُ لا تشغلي بالك...

أطرقتُ وأنا أنظر إلى أصابعي البعيدة النائمة على الغطاء الشتوي،أشرْتُ إليه بالجلوس، قعَد بجانبي على السرير الغبي، يُربِّتُ بيده الذائبة على كتفي فأدثِّرُهُ بنظرتي الدافئة، يضع يده اليسرى على خدي الأجرد فيُلهبني شقاء الأيام ونفاق الزمن وزيف الماضي على جلدي الخائف..أُطرِق ببقايا رأسي ساهمةً..يبتعد عني ويجلس على الكرسي..يهربُ بنظراته المرتعشة إلى النافذة المُشرئبَّة إلى الشارع الأهوج...

أسألهُ بإشارة من يدي المتعظَّمة:

  أين تذهبُ؟

أجابني بصوتٍ خجول: إلى المدينة...

أُطرِقُ برأسي مرة أخرى،أحاول تغطية ما بقي عليه من شعرٍ أبيض متناثر في فوضى حزينة...هو يعرِف أنني لا أريده أن يتركني..شعرْتُ باختناق لا حياء له وبعطشٍ بطعم الكبريت والصلصال..صباحٌ أصفر كان...زاد في ثقله ظهور تلك المرأة التي بلا وجه..كانت في كل مرة تدخل علينا ناثرةً رائحة فمها الكريهة في الحجرة، وجهُها لا شيء فيه سوى أسنانها النابتة مثل صبَّار البادية..كانت تُطلُّ علينا كالصُدْفة وتخرجُ مثل الموت..عاد إلى جلسته الأولى قُبالتي، كان يتأملني برفق فيغسلني بنظراته فتنشر عيوني في الأرجاء هربا من حزنه النائم وشفقته المزمنة...سريري الغبي ينظر إليَّ بشماتة والاختناق يملأ الغرفة حتى يكاد ُيميتُها..يزداد عويل الريح في الخارج... سألني: هل مازلتِ تُصِّلينَ؟ أجبتُه بحركةٍ من حاجبيَّ أرفعهما بتعب عجوز، حاولتُ أن أحرك يديَّ لم أستطعْ ولكني لمستُ بيدي اليمنى الخاتم في إصبعي ورفعتُ نظراتي سائلةً فأجابني:

  لم أرها منذ زمن..

اغرورقتْ عيناي بالأسئلة ولكني تمالكتُ خواء نفسي.. انفلتَ ابني ظل أبيه المعتق إلى الخارج، أعرف أنه هرب حاملا معه خوفه، طَفَتْ كل الذكريات إلى رأسي الثقيل الخاوي، ظللتُ بمفردي مع امرأة الصبار، كانت ترمقني كعادتها بابتسامة نتنة والحروف تطل من وراء أسنانها مُرتعبةً يشهد على ذلك سريري الخشبي الغبي ووحدتي المالحة كنتُ أشعر أني أبني أيامي الأخيرة ولم أكن أعلم أنه يومي الأخير..عاد إليَّ ِظلِّي الحبيب ابني عند الغروب تنبعث من فمه رائحة الحزن والنبيذ والمرارة شعرتُ بيديه المرتعشتين تتحسسان قدميَّ الباردتين، عند حلول الظلام بدأ الخدر والخواء يهاجم ما بقي من أطرافي، توالدت الظلال وامرأة الصبار ترمقني بمطر ليليٍّ كاذب من وراء الباب، توارى الظلُّ مرتجفا مرة أخرى ورأيتُ شجرة الحناء الرقيقة تمسح وجهي برائحتها الربانية والثعبان الأبيض حارس الذكريات يلتف على قوائم السرير الغبي الذي يريد أن ينطبق عليَّ، ذلك الثعبان ظلَّ صديقا لي حتى آخر المحطات، في نفس الوقت خرَجَتْ الكائناتُ الصوتية من تحت الأرض وأصبحَتْ ترقصُ وتغنِّي وتبكي لقد ملأتْ الغرفة صخبا وغناءً وضجيجا ونواحا وفي لحظة هدأ كل شيء حين برز ظلي الصغير من جديد وراءه أختي بطُولها الكستنائي وحزنها الذهبي ودمعتها الراقصة المكتومة، وضعتْ هيكل رأسي على ركبتها برفق وهي تتحَسَّسُِني بإشفاقٍ جميل وتَكوَّم ظلِّي الحبيب على الأرض بوجهٍ ِتْبنيٍّ محتضر، شرعتْ أختي تُقَطِّرُ الماء في حلقي بعَصْرِ قطنةٍ مبتلَّةٍ صغيرةٍ فشعرْتُ بالماء يمتزج بطعم المرض والكبريت والعقاقير في حلقي، رأيتُ زوجي المعتق يخرج من الذكريات يمسك بيدي ويدعوني للانعتاق، أحسستُ جسدي يتحول إلى جثة ولم أعُدْ أفرِّق بين طعم الماء وطعم دموع أختي التي بلَّلَتْ جلد خدي المتيَبِّس رأيتُ أمامي صورة أمي بوشمها الملائكي ورائحتها الحنون ووجه أبي بجبته البيضاء و"كبُّوسِهِ"الأحمر ووجهه الحِنْطي الودود، أكاد أسمع نشيج ابني الحبيب يتعالى بكاؤه هو لم يتغير ظلَّ كما سمعتُه أول مرة حين خرج من أحشائي..أكاد أراه هالة متموجة لا معنى لها، آه لو أعانقه كما كنتُ أفعل دائما آه لو أستطيع أن أعيده إلى أحشائي ولكن...الآن فقدتُ كل إحساسي بمن حولي.. الآن انتهى كلُّ شيء...آه يا ساحري لقد أحببتكَ حتى آخر قطرة حياة..


[1نوع من الزرابي أو السجاد يُعمل من الصوف في القرى التونسية في الجنوب.

[2واد صغير يشق بساتين بلدة"وذرف"الساحلية التابعة لولاية قابس جنوب تونس.

[3هو من أعظم القادة العسكريين القرطاجيين في التاريخ.

[4مسؤول الضرائب التونسي في عهد أحمد باي والذي اختلس أموالا كثيرة وهرب بها إلى فرنسا قبل بداية الاستعمار.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى