الثلاثاء ٢٥ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم بشار إبراهيم

الانتظار..

انفجر الصوت، قوّياً، راعداً، فأشعل ضجيجاً، قوّض سكينة المكان، وهدوءه.. طيّر العصافير، وطّوحها بعيداً.. أيقظ الثمار المتدلية، غافية على أغصانها.. تمايلت بانزعاج.. سقطت إحداها، وانغرس خدها في الطين.. وأخذت تسلم نضارتها لمخالب الذبول.. اهتزَّت خضراوات الصيفي على سيقانها الناحلة، وانحنت وجلة.

حتى الشمس في صحوها، أخذها هذا الانفجار، بغتة، فساطته بشواظ لهيبها الآبيّ.. هي التي توقدت أكثر مما يجب، وقبل أن يجب..

كان ذلك في أحد صباحات شهر آب.. بعد أن استيقظت الشمس من غفوتها، وأخذت تجدِّل شعرها الذهبي، خصلاً لاهبة، في أحد الحقول الممتدة بين أصابع سهل الحوران.. حقلاً يمتدّ كسيجارةِ لفٍّ لم يُحسن صاحبها أن يدرجها بين أصابعه الخشنة.. فجاء مستطيلاً متماوجاً، ينحل حيناً، وينفتل ممتلئاً أحياناً.. يتكئ من جهته القبلية إلى خِّد التلّة الصغيرة، التي تواثب إليها نفر من السكان، ينشبون عليها أعمدة بيوتهم الطينية، وأوتاد حيواناتهم.
كانوا، منذ عشر سنوات قد توازعوا فيما بينهم هذه التلّة، لتصبح قريتهم المطلّة من مسيرة ربع ساعة سيراً، يختصرونها على ظهر حصان أو حمار، على ذاك الطريق الذي يصل بين عاصمة أحلامهم دمشق، وعاصمة أوراقهم درعا.

من هناك، ومن على سطح أيّ بيتٍ طيني واطئ.. كان يكفي أحدهم، أو إحداهن، أن تبسط كفها عند حاجبيها لتلتقط عيناها من غادر ومن حضر.. إلى تلك القرية التي قلّما تزار.

.. وهكذا قبيل الانفجار بلحظات، كان قد بسط كالعادة كفّه فوق عينيه بموازاة الحاجبين، زمَّ عينيه وجاس بنظره الطريق المتصاعد نحو البيت ثم بوابة البيت.. لم تأت بعد!..
زفر غاضباً.. وذهب الصوت ضجيجاً، يملأ الآفاق.. متدحرجاً.. صاعداً، نحو البيت، وفي طريقه يرعش النباتات والخضراوات، يوقظ الأبقار والأغنام، والكلاب، من رقادها الذي بدأت تشرع به.. يفزع الهوام وينثرها ويرعب الأفاعي والسحالي لتنسل إلى مخابئها..
انتظر برهة.. كان الصوت يدقّ باب البيت، وأبواب كل البيوت ونوافذها.. ما أطلَتْ ولا فتحَتْ له بابها:

(ابنة الحرام.. لكأنها لا تريد أن تأتي.. كلّ الدنيا سمعت الصوت.. فما بالها لا تردّ)؟!..
راوده هذا الخاطر، فتمتم لاعنا ساخطا: (ملعونة الوالدين.. قالت ستلحق بي.. وها قد أمضت ساعتين أو أكثر ولم تأتِ.. عمرك لا تعطي امرأة.. ريقاً حلواً.. قلة قتل..)
مسح من مخيلته، مجرد صورة أنه حقيقة لا يعطي زوجته ريقاً حلواً وأنه غير مقصر في ميدان (القتل)، حتى بات اسمه مرعباً لها، وصوته يدبّ الرجفة في ركبتيها.. ولكن.. ها هو الصوت الهادر الغاضب لا يسحبها من شعرها من البيت إليه..

(اتفوه) على زمن وأيام صرنا فيها.. وامرأة لا تردُّ عليَّ.. (الله يرحم أيام البلاد).
غرس رفشه خنجراً في خاصرة الأرض.. منتصباً عند كتف الساقية.. وجلس.. زحزح أليته.. وركزها على كتف الساقية.. درج سيجارته.. بللّها بلسانه، ودسّها بين شفتيه، وألقمها النار.. بثّ غيمة دخان تتواشج وتلتفّ.. تمور بالحركة متدافعة.. ناهضة إلى الأعلى.. نسلت منه خيط الذاكرة، وأخذت تنسج ردائها.. هدأ قليلا.. وامتطى حصان الذاكرة.. وراح يخبّ نحو غير هذا الزمن، وغير هذي الأيام وهذا المكان..

صعد ذاك السفح الشرقي لأحد امتدادات جبال الجليل.. أوغل في المسير صاعداً حتى وصل إلى قريته الخالصة.. كانت مستلقية بهدوء رائق ذاك الصباح.. غاص في أزقتها.. توقف أمام بيته الحجري الأسود الصلد.. ذي القنطرات.. راقته الساقية الصغيرة تترقرق متهادية أمام البيت.. نظر بحب وحنان إلى البيت بحجارته.. نوافذه.. بابه الواسع المقنطر ودّ لو قَّبل كل ذلك ببطء.. لعل الروح ترتوي وتزيح عنها الظمأ المتغلغل..

ربط فرسه.. دخل ساحة البيت، قلبه.. هي ذي الغرف تتوازع حول الساحة، التبَّان.. الزريبة.. المطبخ.. التنّور.. الدجاجات بصيصانها.. حمامات السطح.. هدوءٌ يعمُّ.. لكأنه لم يغادر المكان.. تلمّس الجدران بأصابعه الراجفة.. تقدَّم. فتح غرفته.. الوسائد.. المساند.. الستائر.. دلال القهوة.. أباريقها.. الجرن.. يده الضخمة.. الكانون الأصفر اللامع.. كل شيء كان بانتظاره.. بانتظار جلسته الشامخة.. ساقه اليسرى تنثني تحته، وتستند إلى الأرض.. ساقه اليمنى تنثني واقفة.. لتسند على الركبة ذراعه اليمنى.. تتدلّى بمسبحتها.. تطقطق.. تعدُّ الدقائق والثواني.. تمضي السهرة مترعة بالحديث والضحكات.. تعبق بالأنس.. يتحلَّق الساهرون عنده هذه الليلة.. وليلة غد عند آخر.. وتتوالى السهرات.. تنتقل بين البيوت.. في المضائف.. في القعدات الصيفية الجميلة أمام البيوت.. سيُحضِر كل واحد منهم صحناً من طبخته ليومه.. ويتبادلون الطعام والضحكات والأخبار..
أملأ رئتيه بالهواء.. فانسكب في أذنيه.. صهيل فرس.. خوار بقرة.. هديل حمام.. زقزقة عصفور، وقوقأة دجاج.. ضجّ المكان بأصوات حيواناته، وصراخ أولاده يلهون ويلعبون.. وصوت زوجته تترنم بأغنية لينام وليدها..

زوجته!.. (بنت الحرام).. أعادته من خيالاته إلى جلسته هنا بعيداً.. تحت سياط الشمس اللاهبة.. تلفظ سيجارته أنفاسها الأخيرة.. بين أصبعيه الغليظتين.. ارتعشتا.. ألقى ببقيتها وأخذ يدرج أختها.. كان بحر الذكريات يمور ينقله هنا وهناك.. منذ غادر قراه وسهوله.. أصبح يمضي ساعات وساعات.. صامتاً واجماً.. لا يدر أحد أين يذهب.. لعن ذاك اليوم الذي عرف فيه هذه الزوجة.. وكل النساء.. ولكن هل يستطيع حقاً أن ينسى ذاك النهار.. وتلك الأيام؟..

كان جمّالاً.. بثلاث جمال.. يأخذ اثنين ويترك ثالثهما للبيت.. في تسفاره.. كان يجوب البلاد. لم تبق قرية من قرى سهل الحولة لم يمر بها ناقلاً منها وإليها.. حملاً من تبن، أو أكياس شعير وحنطة.

أنت لو وضعت صفد في ظهرك، واتجهت شمالا.. نحو سوريا أو لبنان.. وشرقاً وغرباً لن تجد قرية ما عرفتها قدماه وجملاه.. بسهولها وجبالها.. أزقتها المتربة.. طرقاتها الوعرة.. صاعداً متثاقلاً.. هابطاً متدحرجاً.. يحمل قامته.. ويسوق جمليه.. يشرّق حتى يصل الحماد واللجاة.. يقطع الجولان بهضابه.. حوران بسهوله.. كان يدرك أن نَسَبَهُ ينتهي إلى رجل هرب من الحماد بامرأة أحبها.. وما زوّجوه إياها.. يومذاك لم تكن من حدود تقف في الوجه.. فقط المسافات الشاسعة تمتدّ متراخية تحت الأقدام المتعبة..
يغرّب إلى لبنان.. هونين.. العديسة.. بنت جبيل.. عشرات القرى التي دخلها، وخرج منها بأصدقاء ومعارف وخلان قعدات حلوة.. عرفوه بفتوته ورجولته.. متوحِّداً.. يختصر عشيرته وأهله بذاته.. آناً يكون شرساً يخشاه من يقربه.. جباراً عنيداً.. قوياً يقتل جملاً بخبطة كفّ، عندما شمس أنْ يركع أمامه.. وحيناً تعرفه دبكات القرى، وأعراسها.. يرئس حلقاتها.. بقامته الطويلة.. وصوته يلعلع بمواويل وعتابا وميجانا..

وأحياناً يطوي أحلامه.. آماله.. أحزانه.. من أبٍ مات قبل أن يعرفه، ومن أم وحيدة مريضة.. ولشقيق بسيط مسكين.. يكبره بعام، وسيموت قبله بعشرات الأعوام..
قريبا من الأفندي، وأحد رجالاته المتميزين.. يشتري بارودة ألمانية.. يشارك بالثورة.. وتسحبه بريطانيا من قريته إلى العلمين، ليكون أحد جنودها المخفورين.. وسيسمي أبناءه بكل معاني الانتصار الذي كان يعدّ له..

ها أنت تنشأ لوحدك.. ولوحدك تستطيع أن تبنى عالمك.. بيتك، أسرتك، عشيرتك..
منك ومن نسلك يبدأ عزُّك ومجدك.. وستعرف قرى سهل الحولة.. من أنت، ومن ستكون؟!..

ذاك اليوم، نزل المفتخرة.. عند أقصى شرق سهل الحولة.. قرية.. مضارب عشيرة.. تغفو بهدوء. كان يسوق جمليه بحملّي تبنٍ.. يصطحب صديقاً.. استضافهما رأس عشيرة (العوامرة).. قبل القهوة المرّة، ومناسف الطعام.. كان يربط قافلته.. عندما رآها.. فتاة قصيرة تترع جمالاً.. بدامرها الأسود، وثوبها المزركش.. تواثبت أمام عينيه.. هاربة من نظراته.. استطلع المكان.. واشتعلت أفكاره.. اتّقدت رغبته..

منذ سنوات مضت قبل ذلك اليوم.. كان قد تزوج.. واحدة من بقايا أقربائه.. أنجب منها صبياً وحيداً.. وصار هو في وادٍ وهي في آخر.. يوم عنده وأسابيع عند أهلها.. ما عاد قادراً على مؤالفتها.. وأضحى لا معلقاً ولا مطلقاً.. وصد أبواب قلبه في وجه النساء خِلْوَ المعابثة والاستحسان.. واللقاءات الخفية.. ولكن هذه القطة الصغيرة قد خمشت قلبه.. وخلّعت الأبواب الموصدة.. من النظرات الأولى.. تلك الدقدقة الناعمة على سفوح ذقنها متهابطة من زوايا شفتيها إلى أسفل.. ذاك اللباس.. غطاء الرأس الملتفّ حول وجهها الأنثوي الضاحك.. عيناها المتقدتان.. (بنت الحرام) تملكته ذاك اليوم.. بعد الطعام والقهوة المرّة.. في طريق الرواح أسَّر لصديقه وحزم أمره.

أخذ ينتظر بلهفة أن يقوده حمل تبن أو حنطه.. إلى تلك القرية ليراها، وعندما حصل كانت قد أصبحت زوجته.. عرفها.. مثله تماماً.. مات أبوها وهي ابنة ثلاث سنوات، وشقيقتها الوحيدة ابنة سنة واحدة.. رحلت أمها لديار زوج جديد.. وبقيت عند أهلها ليزوجوها ابنة اثنتي عشرة سنة لكهل ترعاه ريثما يموت.. وبعد أن مات عادت.. تعيش أيامها بانتظار رجل يحملها إلى بيته.. فكان هو..
أعجب بكل ما فيها.. جمالها.. فتوتها.. شراستها.. قوّتها.. التفَّا على بعض، وكانا زوجين غريبين.. يدفئ أحدهما الآخر.. يتداخلان بهموم وأحلام.. ويبنيان حياتهما بما شاءت لهما الأيام.. وحيدان متفردان.. كانت أخت رجال.. وكان بما هو فيه يبسط سيطرته عليها رجلاً واحداً وحيداً يملأ حياتها وكينونتها.. وإذ تخضع له أيّما خضوع.. تدافع عن بيتها وأولادها لبوة شرسة.. تنشب مخالبها في وجه من تسّول له نفسه أن يقترب من حدودها.

هناك في الخالصة.. عاشا وابتنيا بيتا.. سافر وغادر وجال في القرى والسهول والجبال وعاد إليها.. حصنه القوي.. وحضنه الدافئ.. وساعداً يسنده لحظة عجز.. ستموت شقيقتها.. ويموت شقيقه.. ويلوح من بعيد بعيد طيف الأقرباء.. ويكون من نسلهما ومنهما يبدأ عزهما ومجدهما.. ساندها وساندته.. أحبها وأحبته.. وغبط نفسه كثيراً يوماً..
كان الرجال.. قد غادروا الخالصة إلى مزارعهم وأعمالهم.. تركوا نساءهم وأولادهم وحيواناتهم وبيوتهم.. خلت القرية من الرجال إلا كهولها.. عند الظهيرة اقتربت عصابة من المستوطنين إلى القرية.. أطلقوا رصاصهم.. افزعوا النسوة والأولاد.. كانوا يريدون أن يعيثوا فسادا في هذه القرية.. فهم لن ينسوا أن أول مستوطن قتل في هذه القرية النائية.. يومها.. حملت البارودة الالمانية وتمنطقت بحزام الرصاص صعدت إلى سطح بيتها الحجري الأسود الصلد.. صرخت بأعلى صوتها.. وانهمر الرصاص من بين يديها تنثره صوبهم.. تراجعوا.. ابتعدوا.. كان يعون أن امرأة واحدة.. صوتاً واحداً.. يكفي لأن يشعل الحريق في وجوههم..

مساءً.. كانت القرية برجالها ونسوتها وأولادها يتحدثون عن أخت الرجال..
نهض واقفا يتمتم: (أخت رجال.. أخت رجال.. ولكن ليس عليّ.. قالت ستحضر من ساعتين سألحقك فقط أحضر الزوادة، وبعض الأغراض، وألحق بك.. لم تأتِ.. هذا الناقص).

لم يكن أيّ شيء يغفر لها أن لا تنسحق تحت أقدام صوته وصراخه.. أن لا ترضخ له بشكل مطلق.. صحيح أنها في ذاك العام الأسود. وقد كان غائباً عن البيت.. حملت أغراض البيت وأشياءه على ذاك الجمل الوحيد الذي يتركه دوماً.. واصطحبت الأولاد و بعض ما تستطيع.. وغرّبت نحو هونين.. أقامت عند معارفه وأصحابه.. ثم إلى العديسة.. وأخيراً شرّقت إلى حوران..

لاحقها حينما عاد.. ليجدها في إزرع تأوي مع الأولاد والأغراض.. والانتظار الطويل الحزين.. قصَّت عليه رحلتها الشاقة الطويلة.. مليئة بالخوف والرعب بالألم.. القتل والحرق.. رأت الموت بعينيها.. مرات ومرات.. رجال ونساء وأولاد.. متفحِّمون مع أحمال التبن والعلف.. رجال ونساء وأولاد.. يمتزج دمهم مع دماء حيواناتهم.. خرزتهم رصاصات المستوطنين، وتركتهم تحت سياط شمس أيار.. نحروهم بالسكاكين، وقطّعوهم بالبلطات.. رعب منقطع النظير.. رأت الموت وأوغلت في المسير.. أوغلت.. وفي دمها تتقد نار.

من بعيدٍ وعلٍ.. رأت الخالصة.. تئن تحت سياط النار ولسعات الرصاص.. كان الدخان يملأ جّوها والفراغ والرهبة تملأ أزقتها.. كانت بيوتا أنيسة، وأزقة أليفة.. تلفّها وحشة غياب ناسها، ووحشية المهاجمين.. رأت الموت يجثم أسود وينشب أظلافه في كل شيء..
كانت تحادثه.. البارودة الألمانية تغفوا في حضنه.. تستلقي بين يديه وعلى ساقيه.
ضوء الكاز يلوح بذبالته.. فيلقي ضوءاً خافتاً وظلالاً كئيبة ترتسم على وجه كل شيء.. ولداه ساهمان لا يفهمان ما يدور حولهما.. ولا يدركان معنى.. سوى ذاك الإحساس الرهيب بانهيار الحياة الجميلة، وابتعاد القرية بملاعبها.. أزقة وأسطح وبيادر وسهول.. وهنا الخوف والسكينة والظلال الكئيبة تغمر العين والقلب. كان لا يستطيع حينذاك إلا أن يهزّ رأسه بأسى عميق يقبض على قلبه ويخلعه من مكانه..

التقط (كدرة) وقذف ابنه بها.. هرع الولد نحوه راجفا مرتعباً.. اعتاد في مثل هذه اللحظات.. عندما ينفجر غضب الوالد أن لا يقترب منه.. كان حينذاك يحاول أن يبدي براعة وانهماكا أكبر في عمله.. يقتلع الحشائش.. ويتجاهل ذاك الخوف المتنامي في داخله، منذ أن أوقد والده ضجيجه وغضبه.. ونثر لعناته وزفراته..
رشق الوالد بوجهه اللعنات والشتائم و.. (قل لامك أن تحضر بسرعة.. يركبني اليوم عشرون جني).

فتل الولد عقبيه في التراب.. وانهمر بخطواته نحو البيت.. كانت ساقاه الناحلتان تصطدمان بسيقان الصيفي.. فتلتسعان.. يومض في رأسه الألم.. ويبرق ذاك السؤال رغم الوجع المتنامي.. (مابالها أمي.. ألا تعلم أن والدي سيغضب.. ألا تعرف ماذا سيفعل الآن؟.. كانها لا تعرف أبي.. لماذا تتأخر.. هي قالت له أمامي إنها ستلحق بنا.. تعبنا.. زخّينا عرق حتى دخنا.. وما حضرت.. ليس من عادتها ذلك).

استحثّ بعض القوة المتجمعة في ساقيه.. ركض.. أخذ يخور تعباً لاهثاً.. ابتعد.. بدأ الطريق يتصاعد نحو البيت.. خف عَدْوُهُ.. تحوّل إلى سيرٍ سريعٍ لاهث.. أضاءت في ذهنه تلك اللحظات المؤلمة.. عندما كان والده ينهال ضرباً.. يلسع الوالدة بحزامه الجلديّ.. بالعصا.. بأيّ شيء.. فيما تتكور هي على ذاتها.. تخفي رأسها بين يديها تنفتل بظهرها.. تتالى السياط حتى اللهاث.. يجلس.. يدرج سيجارة ويشعلها بنار الغضب التي تتأجج في عينيه.. تلملم آلامها.. تتأوه.. تبكي بصوت مكتوم، وهو يشتم ويلعن.. يتجاسر على الآلهة والأنبياء.. رغم أنه يصلي.. ولكن ساعة الغضب عند الوالد لم تكن تبقي حدوداً..
أخوه الكبير قال لهم ذات مرة.. خلسة.. (إن أبانا لم يكن هكذا زمان.. صحيح أن طبعه وخلقه ضيق.. ولكن هناك.. نادراً ما كان يضرب والدتنا.. يغضب.. يزمجر.. يشتم ولكن.. ليس بهذا القدر)..

كان يدرك أنه يركض نحو البيت ليجلب أمه، وسيشهد هذه اللحظات الأكثر إظلاماً وألماً في حياته.. سيرى والده يشتم.. سيراه يضرب الوالدة.. وقد يصيبه مع أخته نصيب..
كان يحسد أخاه الكبير الذي طواه طريق الغياب.. ذهب، بعيداً نحو مدينة بعيدة يكمل دراسته.. أصبح يزورهم قليلاً وخلال فترات متباعدة.. لو كان أخوه هنا.. لاستطاع أو حاول أن ينقذ الموقف.. أين أخوه الآن.. حمص.. ماذا يعني؟.. أين تكون هذه المدينة؟.. يقولون إن البلاد أقرب من حمص.. سمع والده يوماً يقول إنه يستطيع أن يذهب إلى الخالصة ماشياً.. ولكن حمص.. صعبة.. بعيدة.. أفهمته أخته يومها أن أباهم يحدّث سمّاره مفتخراً بكبير أبنائه.. الوحيد الذي يحمل شهادة عليا في القرية.. كانت يومذاك لفظها.. مجرد لفظها صعباً على لسان الساهرين..(بكالوريا)..

من بعيد كان الولد يغذّ الخَطْوَ نحو البيت.. سحب الوالد رفشه وعاد إلى شغله.. حوّل مجرى الماء إلى مسكبة جديدة.. رمّم كتف ساقيه.. جهز رجّاعاً جديداً.. ذهب الماء مترقرقاً عكراً في المسارب بين المزروعات.. آخر سقاية.. خلال أسبوع نجني المحصول.. وخلال أسبوع سيعود الابن الأكبر.. ناجح ويحمل الشهادة العليا (صف خاص) سيصبح أستاذاً.. أيّ عزّ ستجنيه وأنت (أبو الأستاذ).. أما الابن الآخر، من الزوجة الأولى، فقد مضت سنوات وسنوات لم تره.. في لبنان مع أمه.. كان يدرك أن ابنه هذا، كما يقولون، صوره طبق الأصل عن والده.. جبروته قوته.. عناده.. سيصبح فدائياً ويستشهد.. ويلد ابناً وحيداً.. يلحقه شهيداً أيضاً..

كان في تلك اللحظة.. منتصباً بقامته المديدة.. يمدّ نظره يلحق ولده الذي طواه باب البيت ولم يعد.. نادى ابنته المتكورة كشاة صغيرة.. تقضم الأعشاب والحشائش بيديها البيضاوين البضتين.. أرسلها في طريق الغياب.. نحو البيت.. بكلمة واحدة فهمت المهمة:
(روحي..)..

قالها، فانطلقت الابنة يرفرف ثوبها وتطير هي على الطريق.. كانت للحظة تعمل وتتمنى أن ينتهي هذا النهار على خير.. أن يرحمها الله من هذا الإرهاق الممضّ لجسدها الناحل الصغير.. من هذه الشمس التي تكوي وجهها الأبيض الجميل.. من هذا العمل الذي لا ينتهي تحت سياط الشمس اللاهبة.. وفي لسعات البرد القارسة.. حرث وبذار وحصاد.. شيء يزهق الروح ويكدّ الجسم.. يا رب.. كانت تحسّ بالحسد لأخويها الصغيرين الذين يلهوان عند نبع الماء أربع سنوات وخمس سنوات.. أعمار كافية لأن يلهوان ويلعبان.. ينامان في ظلال شجرة.. يأكلان فاكهةً وخضراوات.. يتطوّعان لإنجاز أعمال صغيرة وسط ضحكات الوالد المجلجلة.. ساعة صفاء..

غابت البنت.. تركته وحيداً في حقله.. جال بنظراته.. على بُعْدٍ كان فلاحون وفلاحات في حقولهم المتباعدة.. يبدون نقاطاً سوداء.. كنمال منهمكة في عملها.. راودته للحظة فكرة أن يلحق بهم إلى البيت.. سيلعن والدهم، ويسمع القرية صوتهم.. سيمسح البيت بها، ويجعلها فرجة لمن لا يشتري..
كان يغلي في تنور غضبه.. ويتقلَّب على ناره.. هو لا يريد إبريق شاي، ولا لقمة طعام.. تتأخر؟!.. كان ذنباً يكفي لكي يشعل كلّ هذا الحريق، ويفجّر كل هذا الغضب.

منذ سنوات يقهره طريق الغياب.. غياب البلاد.. القرية.. السهول.. الجبال.. الأصدقاء والمعارف.. ما عاد يغني، ولا يحضر عرساً.. غياب أولاده واحداً تلو الآخر..
طريق الغياب يطوي.. ويطوي.. طريق الغياب.. يشرّده بعيداً.. ويشرّد عنه كل من يحب..

كان يحبهم.. جميعا.. ولا يريد لشيء أن يهزمه..
منه ومن نسله يبدأ العجز والمجد.. ولكن طريق الغياب.. لعنة الله..
عاد ابنه لاهثاً.. وحيداً.. بدون أمه وأخته.. وآن سكب بين يدي والده جملته الوحيدة الملفّعة بأنفاسه المتلاحقة.. بخوفه وهلعه.. بفرحة واستبشاره..
 (أمي جابت ولد)..
زفر الوالد وتمتم:
 (الله لا كان جابك ولا جابه)..

القصة الفائزة بالجائزة الثالثة في مسابقة اتحاد الكتاب العرب في سوريا 1996.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى