الاثنين ٢٤ آذار (مارس) ٢٠٠٨
حين لا نكون إلا ظلاًّ لهن
بقلم مروان أبو صلاح

تأملات في رواية (نارة)

تظهر رواية (نارة) للكاتبة الأردنية سميحة خريس اهتمامًا ملحوظًا بالمادة التسجيلية، والتي وردت بتناغم مع كون الشخصية الرئيسة فيها صحفية، تعيش في عمان، وتغطي بعض الأحداث الاجتماعية والسياسية كجزء من مهامها الأساسية، وتتفاعل مع مجموعة من مثقفي الوسط الأدبي والإعلامي الأردني خلال بحثها عمن يكتب روايتها، وتذكرهم بأسمائهم، لتأخذنا بعد ذلك في جولات (عمّانية) لأماكن مختلفة تجري فيها أحداث متواصلة، لا يجمعها في الغالب إلا وجود نارة، ولذلك فرواية "نارة" أقرب ما تكون مثالاً للرواية ذات العقدة الوقائعية، وهي العقدة التي يعرفها جيرالد برنس بعقدة ذات نسيج غير محكم، عقدة تفتقر إلى التواصل القوي بين حدث أو حلقة وما يليها من أحداث أو حلقات، عقدة من الأحداث والوقائع ليس بينها علاقة ضرورية أو ممكنة().

والنص وإن كان وقائعيًّا بالعموم فهو ليس تاريخًا ولا محاكاة حرفية لحركة الواقع، حتى لو تضمن أسماء حقيقية لا مواربة في دلالتها(خيري منصور، محمد طملية، مؤنس الرزاز، إبراهيم نصر الله، عمرو موسى، سوزان مبارك...الخ)، كونهم أشخاصًا مشهورين، وهذا ما قد يلبس الرواية بعض سمات التأريخ... وإن كانت بعض القراءات ملتبسة بالمزج بين تأريخية هذا النص والبعد الفني له، إلا أن القراءة الموضوعية تفرض علينا التجاوز عن حقيقة حصول هذه الأحداث سواء السياسية أو الشخصية، ونؤكد أن ليس من حق القارئ أيا كان (عاديا أو ناقدًا) أن يتهم الرواية بأنها أوردت أحداثًا لم تقع على الحقيقة، وذلك لسبب بسيط، أساسه يكمن في أنه يتعامل مع نص روائي فني، وعادة ما يوظف الروائي نماذج الشخصيات المحيطة به في بنائه الفني، وإن كان إيراد هذا الكم من الشخصيات بأسمائها الحقيقية ملفت للنظر، بما يثير الفضول حول مراد الكاتبة وهدفها من إيراد هذه الشخصيات العامة بأسمائها الصريحة، مع أنه كان بالإمكان المواربة والتكنية، كما هي عادة الروائيين، وقد نجد أنفسنا منقادين لسؤال أهم، لم اختارت الكاتبة تلك الشخصيات بعينها؟ وأغفلت أسماء أخرى من ذات الوسط السياسي أو الأدبي الفني؟!

فمع كون النص الروائي فنًّا أدبيًّا إلا أن شخوصه (الواردة بأسماء حقيقية) تبقى اختيارًا محددًا، وما دمنا نختار إذا نحن نغفل المجموع العام لصالح من اخترناه، ضمن رؤية خاصة بالمُختار، وهو هنا الكاتبة، ورؤية الاختيار هذه قد تكون مفهومة وواضحة كما مثلاً حددت نارة أن كاتبة روايتها ستكون سميحة خريس، ضمن تعليلات صريحة، وقد تكون التعليلات غير واضحة كما في سائر الأسماء التي وردت، وفي هذه الحالة يصبح من حق القارئ أن يفسر تلك الاختيارات كما يشاء، بناء على أن النص حينما يخرج من بين يدي كاتبه يصبح ملكًا للقارئ، يحلله ويستخلص دلالاته ويؤوله كما يشاء، ولن تفلح في الحيلولة دون ذلك محاولة التنصل التي قامت بها الكاتبة في مقدمتها (بقي أن أخلي مسؤوليتي تمامًا حول الذين تجنّت عليهم، أو حولتهم إلى أراجوزات، وألعاب ظل...لا أدعي بأنني أعرف أحدًا منهم، أو أني كنت يومًا شاهدًا على صحة تلك الأحداث)ص26.

وقد تخدع الملامح التسجيلية السابقة (الأماكن والشخوص والأحداث) البعض ليظنوا بأنهم أمام نص قريب لأن يعدّ سيرة ذاتية، وأنها اختارت شخصية نارة هروبًا من الارتدادات التي يمكن أن تثيرها السِّير على الصعيد الشخصي والعام، لاسيما وأن للاسم نارة دلالات قوية، تستقى من كونه اسم الدار التي تديرها الكاتبة نفسها، لكن كل تلك المسوغات السابقة والتي يمكن أن تساق لا يمكن أن تجزم بكون النص سيرة ذاتية، وذلك للاختلاف الكبير بين الرواية كجنس أدبي والسيرة الذاتية كجنس آخر، يجمع بينهما أسلوب القص، ويميزهما من بعضهما الخيال، وهو ما يلف الرواية من أولها لآخرها... فمع أن الأماكن التي احتضنت أحداث الرواية وبعض الشخوص المحيطين بنارة كانوا بأسماء حقيقية، ولا مجال ليكونوا بدلالات رمزية أو فنية، غير أن الرواية مزجتهم برؤية ذاتية متخيلة، مع مجموعة من الشخصيات الرئيسة الرمزية، والتي أضفت على النص بنيته العضوية الفنية، تلك البنية التي تنوء به عن فن السيرة الذاتية الذي يحتكم أساسًا للصدق والموضوعية، وينأى عن الخيال.

ولا تقف حالة التمازج السابقة بين كون الرواية فنّا متخيلاً، والتقارب الشائك بين شخصية الصحفيّة (نارة) والراوية(سميحة خريس) عند حدود الملامح التسجيلية، بل تجاوزها إلى البناء الشكلي للرواية، فهي تبدأ بمقدمتين الأولى لنارة والثانية للكاتبة، قدمت خلالها شهادة ناقشت فيها العديد من قضايا الأدب العامة، والرؤى الخاصة بسميحة خريس الروائية، وسميحة الصحفية ورئيسة التحرير...الخ، لتمزج في مقدمتها بين المؤلِّف والمؤلَّف، وتمارس بذلك أدوارًا تنظيرية نقدية توضح الكثير مما تريد خريس إطلاع القارئ عليه، دون أن نشعر بسطوة مصادرة فهمنا، وإن كانت حرمتنا بعض الشيء من متعة التحليق في التـأويل، وحالت أيضاً بين أن نتعامل مع النص -كما نحب- عملاً مفصولاً عن كاتبته، ونتساءل لم كان ذلك؟ ألأنها تلمس قصورًا في مستوى التلقي لرواياتها؟! أم لأن النقاد (لن يتورعوا عن تمديد الأحبال الصوتية لراغب علامة على مشرحة البحث الفلسفي)، وتتكرر الأدوار النقدية خلال الرواية كما عند تعليق نارة على من يستغل أهمية قضية معينة (كالقضية الفلسطينية) ليكتسب من قيمتها قيمة لشعره، كما الشاعر الذي وظّف تضاريس الواقع الفلسطيني المؤلم ليمرر ما يسميه قصيدة، وكأنه يستغل البعد الإنساني بين العربي وفلسطين (حيث التهبت أيدي الحضور الفتية بالتصفيق، عندما يقول نثرًا يكون أكثر إقناعًا منه كشاعر، تصرف الشاعر كإعلامي، فاستعان بالحمى التي تتسبب فيها صور العنف الإسرائيلي، ظل الخطاب باهتًا والدم متوهجًا...)ص83، فهذه الأدوار النقدية لنارة، والشهادات الذاتية لسميحة خريس أذابت الأسوار التي اعتدنا وجودها في البناء الروائي بين النص ومبدعه.

إذا هي رواية لا جدار فاصل فيها بين نارة وسميحة، لا للتعليلات السابق إيرادها فقط بل لشهادة صاحبة القصة الأصلية، نارة نفسها(كنت على يقين بأن كتابتها لن تكون كما أريد تمامًا، فهي تميل إلى تسريب بعض الأمور، وأبغي تحقيق أخرى، وسيختلط الحابل بالنابل، ولكني لا أملك خيارًا)ص19.

بكل الأحوال اختارت نارة سميحة لكتابة قصتها، لأسباب أساسها تماثل النوع(الجندر)، (وقد اكتشفت خلال بحثي عن المحرر المرتجى بأني خجولة حيال الرجال)ص16، (عندما وقع اختياري عليها لم أهاتفها، إذ أن كونها امرأة عالج ترددي وضاعف جرأتي)ص17، وحسنًا فعلت نارة، فمن يكتب القصص الأنثوية خير من روائية تجمع الكفاية الأدبية مع النفس الأنثوي.

وتشكّل بذلك لنا رواية نستقي منها بعض الملامح المميزة للأدب النسوي، وهي ملامح لا تنفصل عن السمات العامة للأنثى، والتي تميزها عن خصائص الذكورة (إن صح التعبير)، وبذلك لو أردنا البحث في الخصائص التي يمكن أن نميز بها الكتابة الأنثوية لاتجهنا قبَلَها، نتلمس سماتها والأنماط الفكرية التي تشغلها.

تمتاز الأنثى بعدة سمات نسوق منها الاهتمام بالوصف الخارجي كالشعر واللباس والمجوهرات...، وتغرق حال الحديث عنها بالتفاصيل الدقيقة واللافتة، ولا أدل على ذلك من اشتهار المرأة العربية بالتطريز الجميل والمبدع، أما على مستوى الأنماط الفكرية فتمتاز باتخاذ موقف من الذكر، وبمعزل عن اختلاف ذلك الموقف تبعًا لاختلاف الظروف النفسية وطبيعة التجارب والمستوى الاقتصادي والاتجاه الديني إلا أن النساء جميعًا لهن موقف من الرجال، لا يسهل إخفاؤه.

والقارئ للرواية يلمس انعكاسًا لهذه الخصائص النسوية، لاسيما ما يختص بنمط التشكيلات الوصفية للملابس والشعر...، والغائصة في التفاصيل الدقيقة، خاصة حين تتطرق إلى الشَّعر مثلاً(فإنه لن يرى تحت الخصلات القصيرة لشعري الأسود المصفف بإهمال والمقصوص على طريقة"ألا جرسون")ص36، أو حين تصف منديل جارتها ( يومها عدلت جارتنا "أم صبحي" منديل رأسها الحافل بالأزهار البرتقالية مثل حديقة بوذية)ص52، أوحين تصف لباسها (دخلت ببنطالي الجينز وسط حشد من النساء الجميلات الأنيقات، معظمهن قصصن شعورهن مدرّجة تكاد تلامس الكتف ولكنها تنحسر عنه)ص92، بل والمجوهرات التي تلبسها عقيلات الرؤساء(على الشاشة يلتمع خاتم ماسي بديع في خنصر"سوزان مبارك" وعقد مدهش من لؤلؤة واحدة في جيد"أندريه لحود" المتغضّن كأن عمليات التجميل في لبنان الفاتن تفوتها، هناك لؤلؤة أيضا في كل أذن من أذنيها، تتحلى "بهية الحريري" بمجوهرات تقليدية (قطعًا تمتلك أضعاف ثمن ما تزين به وقارها) اللهم لا حسد، لكنها وللحق تتحدث بعربية سليمة، ملكتنا أكثر بساطة في زينتها، تشبه طالبات الجامعة)ص95، أو حتى حين تصف رئيس التحرير، نوع بدلته، وعطره، بل والشامبو الذي يستخدم( فرئيس التحرير يستخدم نوعًا فريدًا من الشامبو المجلوب خصيصًا إلى الدبلوماسيين، ويفوح عطرًا، وتتنوع بدلاته بين تصميمات بيير كردان ورالف لورين، لا تأتيه القشرة من فوقه أو تحته)ص81، وحين يمر الواحد منا بكل هذه التفاصيل يشعر نفسه محتجزًا في جلسة (نميمة) نسوانية ممتعة.

وبالإضافة إلى كون التفاصيل دقيقة فهي مسترسلة أحيانًا، كما نرى حال تناول موضوع (الشبشب)، نعم (موضوع) لأنه احتل صفحات من الرواية، ظهر بداية كتفصيل عاديّ(انتعلت حذاءً مضحكًا شبشبًا أنيقًا)ص31، ثم صحبنا في الصفحات اللاحقة (ثم إن تمسكهن بالصنادل التقليدية المصنوعة من البلاستيك كأنه جلد أصلي لا يخولهن حق انتقاد حذائي الجديد الذي يسلخني عن طبقتي)ص32، (دفعت بالشبشب مجددًا ليعتنق قدمي التي ابتردت وسعدت)ص33، (وشبشبي البسيط المفرط في تواضعه يليق يالسرفيس الذي يركبه الفقراء أمثالي، كما يليق بالموضة التي تخترعها بنات عمان الغربية الراقيات، إنه شبشب التنوع والاستجابة للاحتياجات والمواقف، شبشب التعددية والحرية، الحرية!! أستاء من أغنية مبتذلة قديمة تقول" يا شبشب الهنا، ياريتني كنت أنا" تغضبني بلاهة المطرب الذي يتمنى لو أنه شبشب في قدم امرأة)ص36، كان ذلك(الشبشب) أداة توظف في يد الروائية لإضاءة بعض التوجهات الفكرية نحو الطبقات الاجتماعية الثلاث، الكادحة، والبرجوازية، والبرجوازية الصغرى التي تنتمي نارة إليها، فإطلالته (الجميلة) وفرت وسيلة لتقديم رؤية فكرية اقتصادية واجتماعية، بل وحتى فنية، وهذا الإدراك لا يتعارض مع كون هذا الاستغراق الخلاق يعد من التفاصيل التي لا أتصور أن يصدر إلا ضمن رؤية نسوية، غالبًا ما يفتقدها الرجل.

ومن أهم القضايا التي تشغل الأنثى موقفها من الذكر، اتجاهاتها العاطفية نحوه، القبول أو الرفض سواء المطلق أو النسبي، أيّ التحيّز لها أو له، أو حتى الوقوف بالمنتصف، وكان للرواية في هذه الإشكالية موقفًا غير رمادي، نتلمس ملامحه من زاوية الصورة التي قدِّم الرجل بها.

رسمت الرواية ملامح سلبية للرجال على المستويين الخارجي والداخلي، فمثلاً سائق السرفيس(أشم عرق السائق، يصعب التقدير إذا ما كان شح المياه أو إهمال زوجة كارهة أو شقاء الدنيا أو عطل حاسة الشم وراء موجات العرق المهلكة التي يبخها جسده)ص38،(تماثل رائحتها ريح جدي الذي يتفنن في إطلاقه إذا ما تناول الفجل أو العدس)، (وجه عمي أصفر، وعيناه متسعتان رعبًا أو غيظًا... لماذا يتحول الرجل إلى مسخرة إذا ما صار أبًا)ص107، وجارها موفّق الذي خدع جارته، غادرها إلى الخليج بعد أن حملت منه، بل حتى من يساعد الأنثى -حين تعطلت سيارتها- لا يسلم من الغمز(...بعد "كونسلتو" عام عقده حولنا أشاوس البلد عارضين خدماتهم، نافخين صدورهم بفعل الشهامة الذي يقومون به تجاه امرأة منكوبة في وسط الطريق)ص78، وفي عملها هي محاطة بـ(هكذا دلعته "سحلية"، إذ يمتلك من عبقريتها الكثير، أحمر إذا زاره شيوعي...)ص79، بالإضافة إلى الإشارات السلبية نحو زميل آخر، مطيعٌ لمديره حدّ البلاهة، ومسؤول متعجرف خاوي الفكر، وهي بالإجمال صور لنماذج موجودة في الواقع، وبذلك يمكن أن تمر بسلاسة، ومع ذلك نتساءل أليست تلك النماذج متوزعة (أفقيا) على الجنسين، فلم إذا تركزت (عاموديا) على الذكور؟ أيمكن أن يكون ذلك لأن النماذج الذكورية هي الأعم والأغلب ضمن الإطار المحيط بنارة!

قد يفلح هذا التبرير في إقناعنا لولا استرسال الرواية بإيراد أمثلة تصرح بالنظرة الجنسية للرجل تجاه الأنثى، ومن هذه المواقف ما حصل مع السائق (يظنني سائق السرفيس معجبة بفحولته الفاقعة، لعله يعتبر انفرادي برفقته الطيبة على الكرسي الأمامي محاولة تحرش علنية ترضي غروره)ص38، ومع عبد الباري الإعلامي المتحذلق حين يحاول فتح قنوات اتصال مع نارة (اشرب السم الزعاف، ولا أهضم عيني عبد الباري تلتمعان في لحظة غزل، وأسنانه الصفراء ترسم لي حكاية محتملة عن قبلة الموت)ص47، والميكانيكي الذي باعها السيارة(آنسة نارة... بحب أعزمك كاسة شاي... تنبهت قرون الاستشعار عندي، هكذا إذن)ص76، ولم تستثن الرواية نموذج الرجل المثقف من هذا القالب(المستذئب)، فمؤنس الرزاز حين استمع لصوت ناره بادرها: (صوتك ناعم،... لم أنتبه، سألني عن عمري، وإذا بالإمكان أن نشرب فنجان قهوة معًا...أغلقت السماعة بتهور طفلة ضبطها والدها تغازل على الهاتف)ص14، وهي هنا تتعامل مع نموذج مثقف على مستوى عال من الاحترام والتقدير.

والاسترسال في إيراد المشاهد السابقة يهدف إلى إحداث حالة انفعال نفسية، تأجج فيها عواطف القارئ، وتدفعه لتكوين اتجاهات سلبية نحو الذكر، تصل ربما للحقد، وقد يلمس القارئ إصرارًا على إقحام المتلقي في الجدلية الثنائية (معي) أو (ضدي)، فلطالما كان مضطرا لتحديد موقفه، إما معي، لتكون ضد كل تلك النماذج الذكورية الشبقة، أو أنت معها، فتكون ضدي!

وفشل الرواية (تمنيًا كذَكَر لا جزما) في استقطاب شريحة واسعة من المتلقين لتبني اتجاه نفسي حاقد على الذكور لا يعود لضعف في بناء الرواية العضوي، بل لأسباب مختلفة، منها أن الشخصية الرئيسة أعطت عقب بعض المشاهد تلميحات وتبريرات نفسية ساهمت في مخالفة إشارات نارة، فالمدقق اللغوي حين ينصحها بالتركيز أكثر على ضبط اللغة، (يا بنتي!! على مين يا عمو؟؟ أنت تصحح أخطائي الإملائية والنحوية لأنني أعجبك، أو على الأقل يثير اسمي خيالاتك... يا لقسوة ما أذهب إليه، فالكهل الرصين... لم يبد طوال السنوات التي عملنا فيها معًا، أي سلوك يمكن تفسيره على هذا المحمل الشيطاني، ولكني كنت بحاجة للدفاع عن مستواي المهني... على الأقل أمام نفسي)ص8، وهي هنا تعزو شكوكها لعوامل ذاتية، تضعنا مع المدقق ومع شخصيتها الخارجية ضد الشخصية الداخلية الشكاكة، وهو موقف قد نكون على العكس منه حين بررت احتكاك ماسح زجاج السيارات بها(إذا قدر منظف الزجاج المراهق أني ساهية لوهلة، يحتك بي كتفًا بكف متعمدًا الارتطام بنهدي الصلب... تبدو ملامسة سريعة غير مقصودة، لا يمكن الاحتكام إلى التهم والنوايا إزاء مثل هذا الاحتكاك العرضي)ص38، فهنا نكون في الغالب مع ضميرها تجاه التحليل البريء.

ومن الأسباب الأخرى لعدم تخندقنا وراء مشاعر الحقد هذه، احتمالية التأويل الموضوعية الممكنة، فمؤنس حين سألها عن عمرها بعد أن وصف صوتها بالناعم، قد يهدف للتثبت من أنها ليست في سن المراهقة، وعندها تكون ذهنية نارة هي ما وراء ظنون التحرش.

غير أن السبب الرئيس لرفضنا هذه الظنون يتركز في أن العديد منا يحملون اتجاهات إيجابية متوازنة لطبيعة العلاقة بين الجنسين، فالكثير منا يرون صراعهم في هذه الدنيا لا يجب خوضه ضمن مستوى النوع(الجندر) بين الذكر والأنثى، بل يخاض على مستوى آخر، لبه الأساسي نفعيّ أو فكريّ، يتراجع فيه النوع لحساب المصلحة أو الفكر، كما ترى ليلى الأطرش، حين تحدثنا عن طفولتها: (طفلة ما زلت في مدرسة ابتدائية مختلطة وجدت الذكر شريكًا منافسًا، زميلاً صديقًا، أخًا، على مقعد دراسي مجاور، ربما لهذا لم أسقط على الذكور خيبات الإناث أو أحملهم وزرها كلها؟ وطفلة مازلت حين كنت أفرد أشرعة أسئلتي للريح على طرف كرم لنا على حدود بيت لحم يواجه جبل المكبر والقدس، أجلس ساعات أنتظر أن تضيء مستعمرة رامات راحيل وأحدد ملامح اليهود الذين أرعبوا العرب في كل الأحاديث من حولي، وأحاول أن أتصور القدس القابعة وراء الجبال)().

أما الذكور الذين لقوا التعاطف والقبول من نارة فهما شخصيتان، غائبتان في حضورهما، أولاهما الجد، غائب في حضوره، فاقد للذاكرة، لقي الشفقة من نارة (ازددت حزنًا، نظر نحوي كأنه أذكى الرجال، لعله كذلك، ما دام نظيف الدماغ والقلب، أمسكت برفق ذراعه، وفاض التعاطف في نبرات صوتي)ص112، فالذكر يكون ذكيّا إن كان نظيف الدماغ! يا لقسوتك يا نارة! ما الواقع الذي أعمل بك وأوصلك إلى هكذا توجه؟ فحتى الصدمة الكبرى التي عانيت منها بعد مشاهدة عمك وزوجته (خلال المجامعة) كانت من رد فعل زوجة عمك، سجنتك و...، وعمك حاول منعها ولم يستطع، وهو من فك سجنك، لا أحاول تبرئته، ولكن تذكري بأن المنتهكين لإنسانيتك لا جنس لهم.

عانت نارة من سوء التوافق الاجتماعي، ومن الحرمان العاطفي الناجم عن فقدان والديها، فوالدها شهيد وأمها توفت حال ولادتها، نجم عن ذلك خوف شديد غير مألوف، هربت نارة من الواقع، لا باليأس والاكتئاب بل بالسخرية ممن حولها، والانسحاب من مجتمعها الصغير واللجوء إلى أحلام اليقظة، تلك التقنية الرائعة التي تكفلت بتحقيق التوازن النفسي خلال المواقف الصعبة، اختلقت في تلك الأحلام (حسن)، الحاضر من الغياب، الشخصية الذكورية الثانية والتي حظيت بصورة إيجابية، صديقها الذي كبر معها وعلى فراشها، صحبها في الجامعة والعمل، يذكرنا اسمه وملامحه بـ(الشاطر حسن)، لذيذ، مفعم بالحيوية، شكّلته "نارة" كما تشاء، فكان لها أخًا حين احتاجته أخًا، صديقا، حاولت أن تجعل منه الحبيب، لتكون له المحبة الوفيّة، وكان كذلك خلال طفولتها ومراهقتها، ولكن حينما تجاوزت عمر المراهقة الثانية وغدت في المرحلة التي تحتاج فيها إلى رجل حقيقي ألفته سرابًا خفيا، وعجزت عن استبداله بآخر(وتسهل رؤية اللاموجود بتاتًا، لماذا لم أعثر على رجل من لحم ودم أُلبسه ثوب خيالاتي؟ لماذا يعجز الرجال الحقيقيون عن إشعال فتيل ناري؟)ص153، أحقا تتساءلين؟ حسنًا، سنجيبك، لأن الرجال الحقيقيين يا نارة لن يكونوا ظلاًّ لك ولخيالاتك الوهمية، ولا تنسي... فالرجال أيضًا يستحقون بعض الاستقلالية!

جاذبة "نارة"، حتى حين تنفرنا من أنفسنا، تؤخذنا بجولات في ذاتنا وحولها، تضعنا أمام جوانياتنا، تمتعضنا بقبحها أحيانًَا، وبقبحنا أحيانًا أخرى، وتدهشنا بانعكاس صورتنا عليها في أغلب الأحيان.

ماكرة "نارة" تضعنا في قفص الاتهام لتثير فينا رغبة الدفاع عنا... تحررنا... وتضع نفسها في ذلك القفص... لتثير فينا رغبة الدفاع عنها!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى