الثلاثاء ٢٥ آذار (مارس) ٢٠٠٨
بقلم نازك ضمرة

رواية (عذبة) لفحماوي حرب طروادة جديدة

عندما يتمازج التاريخي بالفن

حكاية (عذبة) هي حرب طروادة جديدة. ملحمة تاريخية فلسطينية. إن كنت عربياً فاقرأ حكاية عذبة مرة في صيف كل عام، وإن كنت فلسطينياً فلتحفّظها أنت وكل أطفالك وأحفادك ذكوراً وإناثاً، لا غرابة في ذلك، سمعت وشهدت أناساً كثيرين قبل عام 1948 يحفظون سيرة عنترة وجميع أشعاره، ويرددون عن ظهر قلب قصة الزير سالم وشعره، وقصة كليب وجليلة وجميع القصائد والتفاصيل، ويرددون عن ظهر قلب حكاية أبوزيد الهلالي وكل ماقاله قبل ما يقارب الألفي عام، وحفظ الرواة العرب المعلقات السبع ومعظم ماقيل في الجاهلية من شعر أو خطب أو حكم بالسماع ودون تدوين...

(مشتاق لعكا وسهل عكا، ابتداء من أمواج البحر، ومروراً بأسوار عكا التي قاومت نابليون، ومنعته من احتلال الشرق العربي، وقرية الزيب شمالا، والتي لم يبق منها حسبما حدثنا أبي غير المسجد، الذي حوّله المحتلون إلى بار، يسكرون ويسهرون بين أرواح الفلسطينيين التي تنام حالمة بأمواج البحر المتوسط) .

فتح جديد لتاريخ يقاوم التقادم والتعتيم

ينجح صبحي فحماوي في شد انتباهنا على مدى 200 صفحة الأولى، يمسك بأعصابنا في بداياتها ليضطرنا لمتابعة حكاية عذبة، يراوح في أسلوبه بين الموروث وبين الواقع وبين الخيال وبين الحداثة، رابطاً كتابات العربي التراثية بالمعاصرة، ومزاوجاً بينهما ومغريك بمتابعة ملاعبة الشياطين والملائكة والأرواح والعفاريت على حبال دقيقة وهمية أو حقيقية معلقة عالياً ومربوطة بين السماء والأرض، يشاغل الرموز العليا ويقحمها ويتحداها، (رافعاً يديه إلى... ومستجيراً به، للانتقام من الظالمين، ولكن ال.... ) ، لايكل ولا يجعلك تملّ من حكاية تكررت وأعيدت آلاف المرات، رضعها كل عربي، وعانى منها كل فلسطيني منذ طفولته حتى النخاع (اللهم إني صغير ولا أتحمل كل هذا، اللهم إن كنت... أوقف والدي عن ضربي) ومع ذلك تتابع قراءة عذبة فحماوي ليكمل لك الحكاية، تتمنى أن تساعدك عيناك وأعصابك وطاقاتك على تتبع بخار المرجل، تسمع أنين المرضى، وآهات المغدورين، وتأوهات المطرودين والمحرومين.

تشعر بالغيرة من عذبة التي تستمع إلى كلام طازح ساخن كاوِ، تحسدها لأن سرد الحكاية مخصص لها، تغبطها وتتمنى أن تراها على قيد الحياة أمام ناظريك، كي تتأمل ملامحها وتتمعن في حركات أصابعها وعينيها أثناء إنصاتها لسرد الملحمة.

رواية تاريخية تراثية تتماهى مع الوجع وتستحضر روح جرجي زيدان ورادوبيس نجيب محفوظ..

سرد كأنه عزف حزين متفحم، آسر يحيلك إلى جمرة تتآكل وتذوي، تبكي رماداً يجللها ويصونها من سرعة التلاشي، متاهبة للدفاع عن كيانها ونفسها، محافظة على حرارة نواتها، كاوية كل من يجرؤ على الدنو منها أو تحرقه، وتسبب الجمرة له ألماً يطول أويقصر متناسباً مع مسافة دنوّه منها، أو مع الزمن الذي قبض فيه عليها، (دبت الحمى في جسد عماد المنذر، فهب واقفاً في غرفة نومه الصغيرة، ثم مشط شعره الأشيب، وسأل نفسه: هل ستقبل بي عذبة على هذا الشكل؟ حيث لم يزل فيه أعزب طيلة تلك السنين وهو بانتظارها) ، يقترب فحماوي من المدرسة الطبيعية، ومن أكبر أنصارها (إميل زولا) الذي يقول : "لم يعد الروائي مجرد مراقب أو ملاحظ يكتفي بتسجيل الظاهر أو الواقعة، وإنما مجرب مستقل غير متحيز، يخضع شخصياته وانفعالاتهم لمعالجة الحقائق العاطفية والاجتماعية" ، فنجد فحماوي يتحرك بعفوية تارة وبقصدية تارة أخرى، صوب الهواء الطلق والأجواء المفتوحة، كي يجد مواضيعه بين الفلاحين والفقراء والأغنياء والمهجرين وحتى بين الغازين المعتدين، ليرسم تلك الأحداث كما سمعها ممن شاهدوها وعاشوها، أو من مشاهدات الراوي نفسه، وعلى هذا يشارك الراوي في تقديم صور غنية عن الواقع، متطرقاً إلى مجالات جديدة من هموم وتحديات، ومع أن مدرسة المذهب الطبيعي لم تعمر طويلا كراصد وحيد للمنابع والمنتجات الأدبية، إلا أن تعابير فحماوي الوفيرة، بل والمتزاحمة والفائضة أحياناً، قدمت لنا صورة عن عالم يتواجد أمام عيني الكاتب بشكل دائم التغيير والتقلب، محكوم عليه بتنازع البقاء بقسوة ، ولسان حال الروائي صبحي فحماوي يود أن يورد ما يود قوله شعراً كما جاء على لسان الشاعر الحمصي السوري المعاصر عبد الحميد الملوحي، ثائراً على الموت بعد فقده لزوجته،حيث يقول:
(لا عاش في الدنيا سوى من كان فوق الأرض جمراً.. المارد الجبار لا يأسى لميت مات ضعفاً)
وعلى كل حال فإن فحماوي يذكرنا بروايات تاريخية متخيلة، أو مبنية على نتف من كتب التاريخ والمحفوظات الشفوية، كروايات جرجي زيدان ثم رواية (رادوبيس) لنجيب محفوظ على سبيل المثال. بل ربما حاول صبحي، أو تمنى أن يكتب ملحمة فلسطينية، تتقارب مع ما كتبه اليونانيون عن حروب طروادة وأثينا أو على شاكلة الإلياذة والأوذيسة.

تبشير حاسم بأن فلسطين للفلسطينيين.

تعجب من صلابة الراوي وإصراره على أن ينجح في سرد حكاية (عذبة) بحكاياته الشهرزادية على نفس واحد، وبخطوط متشعبة تستقيم أحياناً، وتنبعج في مواقع كثيرة، ولهذا نلمس إسهاباً وفيضاً في شرح المواقف والحكايات يأخذ القارئ بعيداً عن بؤرة الحدث الأساس أحياناً، ويبدو أن الكاتب كتب روايته لأجيال فلسطينية لاحقة، كي تتحدى الأحيال القادمة للعمل بلا ملل على النبش في زوايا المضبّع والمظلل، باعثين الحياة في المسكوت عنه، ولو في دنيا اللادنيا، هادفاً تعبئة القارئ، وتثقيفه بكل ما هو محيط بالقضية التي تشغل باله.

لكن الكثير مما ورد في الرواية حين يخرج عن مكانه فلسطين والمخيمات، يصبح عبئاً ثقيلاً على الرواية. وكان بإمكان الراوي أن يفرد رواية أخرى لوصف معاناة العرب المغتربين في دول بترولية، ويحق لنا أن نتساءل:

إذا كتب كل هذا في رواية واحدة، فماذا بقي ليكتب لنا في رواية تالية؟ وينصح حكماء الرواية ومنظروها أن لا نلقي بكل ما نعرف عن حدث ما في رواية واحدة أو قصة.

ويظهر تأثر الكاتب برواية غسان كنفاني (من يقرع الخزان) جلياً في حبكة الرواية، حين يكرر حكاية إيقاع الدليل بعنان في صحراء مخيفة، (لم يكن ما يستأنس به حتى بعر الماعز لم يكن له أثر في طريقهما، وفي منتصف الليل البهيم اختفى الدليل، هو ودولاراته العشر) .

وتبقى رواية (عذبة) ملحمة شبه أسطورية! تأثر واضح بحكايات العرب التراثية مثل ألف ليلة وليلة (أنا أعطي بنتي لمن يقتل هالغول، فقام واحد من الشباب، وقال: أنا سأتدبر الموضوع، وهديتي عندك تعطيني قمر الزمان) واثق من نفسه ومن أسلوب سرده ل (عذبة)، أصر الكاتب طول صفحات الرواية على تخليد التراث الفلسطيني قولاً وفعلاً، وتذكراً وأماكن، محافظاً ما استطاع على إحياء اللهجة الفلسطينية والمترادفات التي ظلت تتكرر على مدى أجيال طويلة في السهل والجبل، في المدن والقرى، في الوطن وبعد الشتات، قد يتساءل قارئ ما: ما القصد من وراء كل هذا الإصرار الذي يوقعه في محاذير الإطالة أو إقحام اللهجة المحكية أو العامي؟

ونترك الرد على هذا لصبحي فحماوي، وإمعاناً في إصراره نجد مواقف وابنعاجات مفتعلة كي يستخدم اللغة المحلية المحكية والعامية مبتعداً عن صلب حكاية عذبة في إظهار مأساتها ومأساة المشتتين معها؟ مع أن أحداث الرواية تكفي الغرض الذي رمى إليه، (كان خالي أبو هاشم يزورنا في معسكر أنصار 3 فنسهر معه على نور اللوكس، ويحدثنا أحاديث تُفقِّعنا من الضحك)، (يستمِخّ بشرب فنجان قهوة تركي، كان الملعون يفضلها على الريحة، فاجأته بدخولي دون إحم، ولا دستور)، (والله عشنا وشفنا كلية للمعلمين) ، (اللوكس، تفقعنا، يستمخ، على الريحة، دون إحم ولا دستور) وماذا لو قرأ الرواية مغربي أو جزائري، أو مستشرق؟ فكيف سيستدل على معاني مثل تلك المفردات؟ وفي أي معجم سيجد لها تفسيراً، أو لو أراد مغربي ترجمتها إلى اللغة اجنبية؟

رواية طويلة في فصل واحد

ومع هذا قدّر الكاتب في ثقة أن من يبدأ بقراءة عذبة، لا بدّ أن يأتي عليها كاملة، قبل أن ينزلها من بين يديه، لا يريد أن يتوقف عند أي جزء من جسدها المؤثر، حتى يعاني مع كل عضو في ذلك الجسد، الرمز المعذب!

ولفت انتباهي أن الكاتب لم يقسم روايته إلى فصول، وأجزاء، على اعتبار أن الحكاية كتلة واحدة متداخلة متراصة، لا يصح التوقف عند أي موقع بها دون سواه، ولا تستريح النفس إلا بقراءة الرواية كاملة، كأنها لوحة فنية واحدة لا تتجزأ، ولا تستطيع فهمها، إلا بتأمل مسحي شامل لها في الوقت نفسه، ثقة من الكاتب بأن قارئه يتمنى أن لا يكرر الشهيق والزفير، قبل أن ينتهي من مطالعة سيرة عذبة، ومأساته معها.

كنت أتمنى حذف الكثير من الصفحات الأخيرة لأنها إطالة لا تخدم العمل الروائي الجاد في عذبة، وتلك الصفحات في معظمها مراجعات وتقارير صحفية مباشرة ، تضعف التركيز والترميز، تجعلك تبحث عن نقطة التنوير، أو تتساءل: متى سيتوقف راوي حكاية (عذبة) عن الكلام.

تثير رواية (عذبة) تساؤلات تبحث عن إجابات مقنعة:

كيف يكتسب الإنسان مناعة ومرونة، حسب الظروف الطارئة، ليحفظ كيانه وذاكرته، ولكي يبني مستقبله؟

ولهذا لا نستغرب، كيف استطاع فحماوي أن يبقى بشراً سوياً بعد (عذبة)!

وخلاصة القول إنه جلد للذات، ورفض للضعف الآدمي، إن ما قرأناه في رواية(عذبة) وسيلة من وسائل التوازن النفسي والاجتماعي.

ومن هنا لا يستغني الإنسان عن الفن، بل ستبقى الحاجة إلى الفن بجميع أشكاله التعبيرية قائمة أبد الدهر.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى