الأربعاء ١ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٤
بقلم سليمان نزال

سوق الأحلام

كان أقرب الأصدقاء إلى وريدي..يجلبُ لي إشارات القرنفل و الياسمين في عينيه, يرتبها باقة باقة, يضعها في كفي و ما تبقى منها يضعها في جوارير الصبر و فوق أحد الرفوف في مكتبتي..فأعود إليها كلما ضاقت بي المسافات و ضقت بها و رغبتُ في أن أضعَ بعضَ القمحِ في طاحونةِ السردِ القروي.

كنتُ أخاف عليه, لا أتحدثُ معه أمام الناس, لا أتركه وحده في البيت, و حين يمرض أداويه بالأعشاب و بحكمة الجدات و وصفات الزمن الراحل..ثم ألتفت إلى نفسي و آلامها و أتناول جرعة من يديه..
و كان يضحك.. عندما يبدأ بالسعال ثم يراني أتابع الوصلة ذاتها على إيقاعات العدوى و الإنتشار...

لم أتخيلني أعيش دون صحبة هذا الرفيق..لم يكن بمقدوري أن أطمئن على قمر سواه يصحبني أوقات الشدة و الرجاء و في حالات الغضب و الصراخ,في الصحو ..في النوم..في الركض.. في المشي.. في مطاردة الصور اللوزية.. و في مواجهة الذئاب..

كان وفياً, مرشدي في الظلام, عكازي كلما تعثر جموحي و إصطدم َ بصخور معادية..

في اليوم الأخير الذي سبقَ رحيله.. شاهدني أرتجفُ من السخط و من بردوة الجهات العابثة..خلعَ معطفه بسرعة, غطاني, بقيتُ أرتعش و أتمتم بكلمات هاذية..إستأذنني لساعة و عاد يحمل حزمة من الحطب على كتفيه..إبتسمَ لي..إحتضنني, و أشعلَ الموقدَ..أبصرتُ دموعه , كان يحاول أن يخفيها عني بيد الرؤيا.. كان هو الآخر يرتجف من الأسى..كان يكابر..لا يريد أن يُظهرَ مواجعه و يكشف ذبوله أمامي مباشرة..

إقتربَ مني, ضغطَ على جبيني, أبصرتُ غيوماً داكنةً تخرجُ من رأسي..قال:-" هل تستطيع أن تكملَ وحدكَ الطريق دوني"

تظاهرتُ بعدم السماع..كرر السؤال الصاعق..حاولتُ أن أبدو رابط الجأش, حتى لا أرى حلمي ينهار, دون أن أجيبه على سؤاله, تماسكتُ و قلتُ لحلمي-:" أنت الطريق..فهل تراني أهرب من طريقي و حلمي"

نظرتُ حولي لم أجده..نظرتُ في جرحي لم أجده..فتشتُ كلَّ مكان في الغرفة..لم أعثر له على أثر.. إختفى..تركني حلمي.. قلتُ في نفسي" لعله ذهبَ كي يقترنَ بحلم آخر..أو تراه يطلب مساعدته كي يساعدني.."

و إنتظرتُ سنوات و سنوات.. لم يأت... بقيت متمسكاً بأمل عودته..لم يأت..حتى جاءت ليلة الخميس الماضي..حين قمتُ من نومي قلقاً, منزعجاً, أفتشُ عن رسائل رأيتها في حلم لا أعرفه.. بعد أقل من دقيقة من البحث قادني الطيفُ إلى حيث توجد المكتبة..عثرتُ فيها على ورقة صغيرة مكتوب فيها" الأحلام مثل البشر, تشيخ و تموت..بعد أن تكبر تموت..فتش لك عن حلم آخر..أبحث في كل مكان..قد تجده. سنجد متاعب كثيرة.. لكنك ستصل ذات يوم.. فلا تيأس, وداعاً"

و دعتُ إمرأتي.. و أطفالي, و أخذتُ معي نصف نقود العائلة.. و تزودت بكيس من التبغ و بعض الكتب و الأقلام و الدفاتر و الخرائط.. و أخذتُ أسال عن سوق الأحلام..

بعد أسبوع من البحث المضني, دلتني إمرأة شقراء..على مكان السوق..حين وقعتْ عليه عيوني, شعرتُ بالنفور, بالغثيان, قررتُ أن أتركه..لكني تحاملت على نفسي و دخلتُ في أزقة حالكة.. و إكتفيتُ بترك المرأة الشقراء التي أخذت تسألني أسئلة صفراء, إستفزازية, مريبة..

و قفتُ في طابور طويل طويل..أنتظر ُدوري في الحصول على حلم جميل, قوي, مناسب, مثل بقية المواطنين الذين ينتظرون منذ زمن ..مثل بقية خلق الله, أنا أيضا محتاج إلى حلم يدفعني إلى الأمام.. يعوضني عن صديقي الذي كان أقرب الأصدقاء إلى دمي و وريدي...

صوتُ صراخ باعة الأحلام يرتفعُ..شاهدتُ دبابات و مجنزرات تطوق السوق..شاهدت جنوداً..يفرغون صناديق و عُلب من الكوابيس من شاحنات كبيرة..

على مسافة غير بعيدة من مكان وقوفي في السوق..شاهدتُ ثلاثة رجال يختصمون على حلم واحد.. كل واحد يدعي أنه إشتراه بحُر ماله..آخرون كانوا يوثقون أحد الأحلام العنيدة, .. و يرشدون الجنود عليه..سمعتُ طلقات رصاص..صرخات أطفال, عويل نساء, قصف من طائرات..فأجبرت على ترك السوق على أن أعودَ في اليوم التالي..

أخذتُ سيارة أجرة أوصلتني إلى سوق الأحلام..لم أنتظر كثيراً مثل المرة السابقة. إذ صودفَ وجودي مع وقت الصلاة..وصلت إلى منصة البائع السمين الدميم..أخرجتُ حافظة نقودي و قلت:" من فضلك..أريدُ شراءَ ذاك الحلم الأخضر" حدق بي..كانت نظراته تشبه نظرات الغزاة..قال لي:" أي حلم تريد..إسرع , تكلم , هيا.."

 :" الحلم الأخضر. على يمينك, إذا سمحت"
 :" أنت مصاب بعمى الألوان..هذا الحلم الذي تشير إليه أسود مثل القطران"

 :: حسناً, أسود أسود.. المهم أن أحصلَ على حلم يعوضني عن صاحبي الراحل.."

و دفعت نقودي كلها.. و فوقها ساعتي و خاتم زواجي.. و أخذتُ الحلمَ..و حملته على ظهري.. كان ثقيلا..لزجاً..محشواً بما يشبه الزجاج و الحديد..و قبل أن أغادر السوق. سقطَ الحلمُ الغريب عن ظهري..تجمَّعَ حولي الناس.. بعضهم كان يهمس, آخرون كان يبكون..أكثرهم كان يضحك دقيقة ثم يبكي بقية الوقت..تركتُ الحلم الأسود ملقى على الأرض.. تدوسه السابلة..

أشعلتُ سيجارة.. و سألت رجلاً مُسنا ً كان يقف إلى جواري:" يا عم..قل لي ..ما هذا الحلم الكريه الذي إشتريته..لا يشبه حلمي الجميل في شيء.."
أجابَ مبتسماً.. بمرارة.." هذا سوق المغفلين..كل الأحلام الموجودة في هذه السوق, كوابيس برسم البيع"

قلتُ له:" لكني فقدتُ.. و أريد.."

لم يدعني العجوز أكمل جملتي فقالَ قبل أن يودعني منصرفا:" حلمكَ في الأسر, و سيخرج إلى النور..أنتَ تحتاج إلى شراء تجربة.. و لست بحاجة إلى شراء حلم"

ومضيتُ أبحث عن تجربة..


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى