الاثنين ٧ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
بقلم زكية خيرهم

صراخ الصمت

منذ أن كنت طفلةً وأنا أصرخُ صامتة. صراخ في الليل وصراخُ في النهار يدوي في داخلي فقط. في أحشائي وقلبي وعقلي.

إن بكيت جهرا ينهال عليّ الضرب بقوة. الضرب يلفظ أنفاسي من مسامات جلدي ويحطم أضلعي الواهنة فتتساقط عظامي المرتعشة رعبا وتتقطع أنفاسي في غياهب المجهول.

لم أكن حينها أملك أحلاما كبيرة وربما حتى صغيرة. رغم أن كل اللواتي معي في الفصل يحلمن كما يشأن. (سوزان) تريد أن تصبح ممرضة و(كريستين) مهندسة معمارية و(إليزابيت) مراسلة صحافية و(هند) استاذة جامعية و(ليلى) اركيولوجية.

كانت متعتي الكبيرة الجلوس بالشرفة رغم البرد القارس في فصل الشتاء. هناك كنت أتامل النجوم وكانت هي تراقبني طويلا. أتامل رقصها المتوهج عبر مساراتها اللامتناهية طيلة الليل وعندما تتعب تختفي، لتنام عند بزوغ الفجر وتتركني وحيدة بين براثن أحزاني التي أمست وميضا في الليالي الداجيات، واخزة قلبي بدون رحمة.

بعد التـأمل الطويل في تلك الليلة يتناوب النعاس والرعب على لحظاتي. أصبح لوني شاحبا. سألتني أمي:

تبدين شاحبة نحيلة، أحبك قوية ومتوردة مثل ابنة خالتك زينب.

قلت لها:

إنني أتحدث للنجوم، أروي لها حكاية الصراخ الصامت وهي تصغي إلي بإمعان. أحسها وكانها تقترب مني، أحاول عدها لكن ذلك مستحيل...

ردت علي بابتسامة مصطنعة وجبينها مقطب:

إنشاء الله تعدين النجوم ظهرا. هيا ساعديني. سيأتي الضيوف مساء.
ماما، أم سمير وعائلتها ليسوا ضيوفا. إنهم يأتون كل يوم وكأنهم يسكنون معنا. لقد تعبت من لف أوراق العنب وحشو "الكبة" لجيش عرمرم ليس له حد ولا نهاية. إنني البليدة في الفصل.

وقفت سيارة أبو سمير أمام الباب ونزل من سيارته يتبختر في مشيته ويده اليمنى على كرشه المتدلية واليد الأخرى تداعب مفاتيح السيارة. أما زوجته فكانت تتعارك في مشيتها مع سمنتها المترهلة، تحاول إخراج علب الحلوى وصندوق الكولا الذي أحضرته لنا من الحدود السويدية النرويجية. أولادُهم الخمسةُ ظلوا واقفين خارجا مع إخوتي الذكور.

تفضلوا مرحبا بكم.

دخل أبو سمير وأبي إلى غرفة الأولاد، يستمعان إلى الموسيقى العربية عبر الإنترنيت، أما أنا وأمي وأم سمير كنا نهيء الأكل في المطبخ.

قالت أمي والفرحة ستطير من عينيها وكأنها لم تر حبيبة قلبها أم سمير منذ زمن بعيد.

كيف حال أم وائل يا أم سمير؟

بتسلم عليك.
والله لم أرها منذ زمن بعيد.
مشغولة بتوأميها.

معقول! أم وائل أنجبت توأمين. سبعة أطفال الآن. ما شاء الله.

شو بدو يعمل الواحد يا أم نداء في هذه الغربة! لا بد أن ننجب أطفالا كثيرين، يتعاونون مع بعضهم البعض. نحن لن نظل لهم إلى الأبد.

إيه والله. مش مثل ديما. عامله حالها نشيطة ومثقفة ومتفتحة مثل النرويجيات. لم تنجب إلا طفلها الوحيد.
يا حرام الصبي مثل اللقيط.
إيه... نسيت أقول لك. هل سمعت الخبر؟
فتحت أمي عينيها بلهفة وابتسامة عريضة على شفتيها توحي بالشوق لمعرفة الخبر.
أي خبر... شو في؟.
بنت أم خليل، جاءها عريس من ألمانيا عنده ثلاث مطاعم في ميونيخ.
شوبدها أحسن من هيك... بتعيش أميرة منغنغة.
موش بس هيك. أحسن تتزوج وإلا يحصل لها ما حصل لبنت أم عبيد.
شو صار لبنت أم عبيد؟
ليش ماعفرفتي شو صار؟ صارت قصتهم على كل لسان.
لقد كنا في ألمانيا عند بنت حماي. لو لم نسافر لما كنت قد عرفت الخبر
ماذا حصل لها؟
لقد هربت من بيت أهلها وسكنت مع صديق إفريقي.
ماذا؟! الله لا يعطيها العافية. ما هاتان الفضيحتان. فضيحة الهروب وفضيحة الحبيب الأسود. ما وجدت إلا الأسود؟ يا عيب الشوم يا زينة يا بنت أم عبيد. وماذا عن والديها المسكينين لقد مرغت وجهيهما في التراب.
أبوها يهددها بالقتل. اقسم ألا يحلق شعر رأسه وذقنه حتى يجدها ويدفنها في التراب حية.
يا حرام والداها، ماذا أذنبا في حقها حتى تفضحهم هذه الفضيحة. والله بنات اليوم لا يصلحن إلا للضرب.
نظرت إلي أمي وقالت بنبرة حادة، وكأنها تقول لي إياك أن تمشي على درب زينة.
هيا بسرعة، إنهي حشو الكبة واقلي البطاطس تحركي...وإلا ضربتك حتى يسيل دمك.

لم أنظر إليها، كنت أنجز ما قالت لي بسرعة فائقة، فقط لأنني أريد أن أغادرهما وأغادر المطبخ. كم تمنيت أن أغادر المكان كله. ليس مع صديق أو رجل أبيض أو أسود ولكن مع عزرائيل.

نظرت أم سمير إلى أمي وقالت بامتعاض واستياء:

الضرب! ماذا تقولين يا امرأة. هنا في هذا البلد التعيس لا يسمح لنا أن نضرب أولادنا. إنه بلد الخبث والمكر، سيأخذونك إلى السجن حتما أو ينزعوا أولادك منك ويضعونهم بالبارنا فارن(مؤسسة لرعاية الأطفال المضطهدين من قبل أهاليهم).

وقفت أمي وكأنها دبابة مستعدة للقصف. وضعت يدها اليسرى على خصرها ورفعت يدها اليمنى إلى السماء تهدد بها قائلة:

والله أضرب أولادي وأضرب ثم أضرب مثلما شئت هؤلاء أولادي وأنا حرة في تربيتهم.

كنت أنظر إليها بتقزز، ساخرة منها ومن أم سمير ومن نفسي كما تسخر منا الأيام، أكرههم، أرى أنهم معاقون، مرضى، جاؤوا غلطا وسيرحلون كما قدموا. كنت في أمس الحاجة إلى قهقهة مجلجلة، عالية، مدوية صارخة، ساخرة. انفجرت مني رغما، لكنها دوت محدثة ضجة داخلي فسحقته.

كنت أقلي البطاطس وأصرخ في داخلي،" أنت لست حرة يا أمي، جئت إلى بلد غير بلدك. مادام بلد الخبث واللاأخلاقيات، أمكثي في بلدك بلد الحضارات والقيم، بلد الأخلاق والمثل، بلد العدل والتقدم، بلد العفة والقانون." أخفضت أمي صوتها لكي لا أسمعها وقالت لأم سمير.

الصيف القادم سنسافر إلى الوطن ونزوج ابنتنا. إنها الوحيدة بين الذكور ولا نريد فضيحة.

كنت أسمع حوارهُما الذي ينزل على قلبي كالسُّم ومن دون أن أشعر كانت يدي داخل المقلاة. صرخت إلى أن غط على قلبي من شدة الوجع. حملني أبي في سيارته إلى الإسعافات. كانت أسوا أيام في حياتي رأيت فيها النجوم ظهرا.

سافرنا إلى ضيعة والدي في العطلة الصيفية وانهال علي العرسان كالوابل. اختار أبي أحسنهم نسبا وحسبا وأُرغِمت على الموافقة. كنت أتطلع لزوج المستقبل أبحث عن شيء يوجد فيه منذ زمن بعيد. زمان طفولته. فلم أكن أر شيئا إلا أنني اقترنت برجل يرتدي قناعا سميكا ومخيفا. رجعنا إلى النرويج، منعت علي أمي أن أكمل دراستي.

حصل زوجي على عمل في متجر بجرون لاند وتعلم جملا باللغة النرويجية، فتجبر واستكبر وأصبح يحاسبني على الكرونة الواحدة إن صرفتها.

أصبح ينتقد حياتنا في البيت وينتقد لباسي ولو أنه طويل ومحتشم، ينتقد احتفالنا بعيد الميلاد لأنها عادة من عادات الإفرنج، ينتقد أمي وإخوتي وأبي كان دائما في صفه.

عادة في الصباح أشعر بالرغبة في النوم بعد طيلة السهر مع توأمي. ينهض للتأهب إلى العمل فيركلني برجليه لكي أستيقظ وأهيء له الفطور.

في أي وقت يريد أشباع رغباته، ما علي إلا الطاعة والهرولة وإلا أركل بالرجل، فذلك جزء من الفروض الواجبة وإلا ينزل علي بالسب والنّعل.

منعته يوما لأنني كنت مريضة، فلكمني وشتمني وكانت ليلتي سوداء حالكة، وعيني بلكمة يديه هالكة وشعري منفوش وأسناني الأمامية مكسرة والدم ينزل من أنفي وفمي. تركت توأميّ نائمين. تسللت إلى الحمام، لبست ملابسي وغادرت المنزل، أجري بين الأشجار، لم أستطع احتمال حالة الخوف. كنت مستعدة لأفعل كل شيء وأتخلى عن كل شيء لأجل خلاصي من التعذيب النفسي والبدني ورغم القلق على توأمي الذي يزيد من ارتباكي ومخاوفي، حكم علي القهر والذل، الهروب والتمرد من مرارة زواجي القسري. عراء في فكري، جوع في قلبي وضياع في روحي. غادرت المنزل أجري، أركض من وجع اللكمات على جسدي وضربات سددها القدر لي.

جلست في الغابة أرتعد من شدة البرد والحيرة تنهال علي كوقع المطرقة.

كل شيء حولي أراه يتحول فجأة إلى أشباح مخيفة، بلعت ريقي وقد جفت حنجرتي من صرخة استغاثة صامتة. من أي طينة عجنوا... يعيشون في خيال ووهم أفكارهم التي يعتقدون أنها سامية، يتغنون بالتقاليد وأذيال تخلفهم تجرهم إلى الهاوية. البرد يلتهم بشراهة حرارة جسدي. تكورت بجسمي الواهن، أحتضن قلبي المحطم وروحي المعذبة وأنفاسي المرتجفة، المتقطعة التي كانت تمر خائفة حذرة تتعثر على وجهي الشاحب. بحركة مثخنة بالجراح مسحت على جبيني المندرس بعصارات الشقاء، أحاول أن أهدأ من روعي لكن أحزان الليل تتوسدني إلى أن أشرق ضوء الفجر. شخصت ببصري نحو الأفق وغرقت في تأملاتي المنكسرة من خلف كواليس نفسي الممزقة يأتي صوت صامت مكتوم بداخلي، لن أدعهم يسلبون حقي في الحياة علي أن أصمد... إنهم يصادرون أحلامي... يلوثون روحي... الثلج سيغطي كل الأسى بلونه الأبيض وسيمنحني ربيعا جميلا بعد الجفاف والقهر وجوع الروح وعندها ستمد لي الشمس يدها مصافحة ويغمر الفرح مساحة روحي الميتة لتنمو من جديد وتخصب ثمارا بالصيف"

تذكرت الضرب واللكم والركل فاطلقت ساقي أجري إلى أن وصلت إلى الشارع. أوقفت أول سيارة، أوصلتني إلى محطة القطار. لم تكن بيدي نقودا كافية، لكنني قررت رغم ذلك أن أغادر كل شيء وأمشي في قطار حياتي إلى آخر محطة في القطب الشمالي حيث الصقيع... حيث البرد... حيث الهدوء...... بعيدة عن الضجيج وعن الذل والضرب..... بعيدة عن العبودية وعن الركل بالأرجل. في تلك المحطة الأخيرة سأجلس حول تلة من جليد أمسك بيدي الثلج وأضعه على اللكمات التي في جسدي ثم أمكث هناك إلى أن يبرد الدم الذي يفور في جسدي ويتجمد إلى الأبد. كلنا سنرحل، لكني كنت أود أن أرحل بطريقة أخرى.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى