الثلاثاء ٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
براءة الجسد ومخاوفه
بقلم محمد سمير عبد السلام

كوب شاي بالحليب لمحمد جبريل

في نصه الروائي”كوب شاي بالحليب”الصادر عن دار البستاني بمصر 2007 – يستعيد محمد جبريل حدث الالتحام العضوي بدلالاته البيولوجية، والتاريخية الشخصية، والثقافية، والحلمية، والعبثية. هذا الحدث المجدد من خلال عوامل الوحدة، والتمزق، والعقاب، والفرح معا يشكل صيرورة الشخوص ومصائرهم، ويهدد وجودهم المعين في الزمان والمكان عن طريق تضخم الحالة الجسدية وتفوقها على الوجود الفردي، فذكرى الالتحام بكل مستوياته الدلالية في النص تحافظ على تجسد الفرد وتتجاوزه من خلال قداسة حالته الجسدية التي تجمع في نسيجها عبث الأداء، وميكانيكيته، وفرح الوعي باكتشاف النزوع الإبداعي لهذا الأداء كظاهرة فريدة مصحوبة بالبراءة، والدهشة.

ويظل الوعي في حالة اكتشاف متكررة، ومتجددة لأشكال الالتحام، والتفكك وكأنها تتحدى المدرك، وتقاوم إرادته، وعقلانيته التحليلية كمثقف. لقد بدا بنسيون شارع فهمي وكأنه جزء متوهج من الطاقة الكونية، والحلم المضخم بالغرائز في براءتها العنيفة، ومحوها للكينونة المحددة من خلال حدث البدء في التكوين الذي صار حالة جسدية جماعية ثم أسطورية ثقافية حلمية، وبلغ ذروته في حضور النص الروائي من لحظة التفسخ التي تلت انهيار رابطة المثقفين في البنسيون، وكأنه يجدد هذه الطاقة على مستوى تمثيلي متضاعف يتجاوز دلالاته التاريخية.

إن النص يستبدل البنسيون، من خلال تحول الأخير إلى أثر كوني ونصي، وأرضي، فالبنسيون يكتسب التخييل الكامن في الانتشار النصي، وكأنه بداية بريئة في سياق حب البطل سمير دسوقي/ الصحفي لشرب الشاي بالحليب، لكنها براءة ليست أحادية تختزل نفسها في سيرة سمير وعلاقاته، إنها براءة الأداء الجسدي الخالص ومخاوفه المتكررة من العقاب والتفسخ وقانون الضرورة المتحول أبدا باتجاه فرح الوعي ببراءة حدث الالتحام.

يرى فرويد أن الحياة بحد ذاتها تجمع بين كونها صراعا وحلا توفيقيا لنزوع الموت نحو تفتيت المادة الحية، ورغبة الإيروس في توحيد العناصر المفتتة مرة أخرى ( راجع – فرويد – الأنا والهو – ترجمة محمد عثمان نجاتي – عن دار الشروق ).

إن تلاحق وحدات السرد وتضاعفها أمام الوعي في الرواية، يؤكد استعادة تناقضات الحياة، وصخبها في اتجاهي البناء والهدم، والتداخل المستمر بينهما حيث تختلط الرغبة في الخروج عن الضرورة، ومشاعر الذنب، باستعادة التكوين الجسدي خارج الحدود في صفاء كوب الشاي بالحليب، وخصوبة الأرض التي صاحبت أساطير تموز، وأوزوريس معا هكذا تحول التدمير البيولوجي عقب إصابة المجموعة بمرض قمل العانة وانهيار توقعاتهم السياسية، إلى أثر نصي يوحد بينهم مرة أخرى، ويحن للحظة الالتحام في تجددها اللاواعي، وأدائها التمثيلي.

وتتعدد مستويات السرد في رواية كوب شاي بالحليب، فالسارد يشير إلى مشاعر التوحد الجسدي بشكولها المختلفة، كما يلج وعي غسان الشاب الفلسطيني الذي يميل إلى العزلة والتعين الشخصي أكثر من الشخوص الآخرين، ويشير في مستوى سردي آخر لمناقشات المثقفين حول حدث الوحدة بين مصر وسورية وآثاره، وفي هذه المناقشات يعلو الجانب الشخصي، وإرادة الهوية الأكثر تعارضا، واختلافا مع الآخر، أما في المستوى الأول فتعلو حالة التضخم الجسدي على الكينونة والإرادة، وتتداخل هذه المستويات في دهشة الوعي إزاء انخراط الجسد في الحدث، والأداء معا بصورة تطمح لتطهير الشعور بتفرد الجسد رغم عوامل تدميره، وضروراته القهرية.

وتكثر لحظات التبئير الداخلى على شخصية البطل الصحفي سمير دسوقي، ثم تتنوع على الشخوص الآخرين مثل غسان وحسام خياطي وغيرهما. ولكن الارتكاز على العوالم الداخلية في عمل محمد جبريل لا يعني المعرفة الموازية لما يعرفه الشخص، إنه يعاين حالة الالتباس الداخلي، وإمكانيات الخروج عن الحدود الشخصية المعرفية، والجسدية، وكأنه يسخر من اكتمال هذا العالم الداخلي، فيرصده في لحظات جزئية، تميل إلى الآخر أو الظواهر الكونية في تجسدها غير المحدد.

ويلتبس المعنى الثقافي لآلية الممارسات الجنسية هنا بين قوانين الضرورة القهرية في وعي النساء، ومحاولة التفوق عليها من خلال الحدث القهري نفسه حين يتحول إلى حالة غريزية تحمل معنى الالتئام خارج الفاعل المركزي، أو تاريخ المرأة معا، فقد اعتاد سمير سماع الحكايات المتعلقة بالظروف القاسية من النساء المترددات على البنسيون، مثل الأبوين المنفصلين، والشاب الغادر الذي يجري بعدما يختطف الثمرة، وعجز الأم عن الإعالة، واختفاء الزوج، أو الضرب، والاستياء من الممارسات الشاذة.

إننا أمام سياقات، وأبنية آلية تعد الجسد سلفا لهذا الحدث، ولكنها تخفي تداخلها مع الرغبة العنيفة في الوحدة النفسية، والبيولوجية، والخروج الثقافي من حالة القهر، وكأن المرأة تمردت داخل الآلية، وسقطت في قوة ملتبسة تعارض الضرورة من خلالها وهي قوة الالتئام التي تدمر التمرد الشخصي، فيذكر السارد عن جزرة أنه كان يقدم على الممارسة في أي مكان في الحجرات، والصالة، والطرقة، وكان اهتياج جسده يأتيه في لحظات لا يتوقعها، فيأخذ عنابر / الخادمة في حجرات البنسيون، ويقول له وردي: ماذا تركت للقطط، والكلاب، أما جلال ضيف فيأتي ببائعة فجل، وكرات، ويقول إنه وجد في رائحتها شيئا مثيرا. وقد اكتشف سمير أن ماريا التي ظن أنها أحبته بعد فقده عذريته، هي من نزلاء البنسيون، ويراها مع جزرة.

إن زوال حدس التعين في الحب عند سمير، يوقع انشقاقا بينه، وبين كوب الشاي بالحليب الذي ارتبط به، ويدخل لعبة الالتئام الجماعية مع مجموعة المثقفين حتى تتضخم قوة الجسد خارج اللذة، والهوية الجماعية، وتقترب من معنى الانفصام، أو الموت حين يصاب النزلاء بمرض قمل العانة. تلك التي بدت في أحلام سمير جسما كبيرا شائها له آلاف الأعين، والأفواه، والأرجل ويطير به في الغرفة، أو يهم بابتلاعه، أو يلتهمه في صمت.

مثل هذه الأخيلة تصل ذروة التضخم الجسدي، بالتفكك، والانهيار للمادة الحية، في أخيلة سمير، وزملائه، ومن ثم تزول رابطتهم، ومناقشاتهم السياسية، وكذلك موقعهم التمثيلي المتحول في الوجود، وهو بنسيون شارع فهمي الذي يصير أثرا تاريخيا، ومجازيا في وقت واحد عندما يفتقد عصام الزهاوي دعوة سمير على كوب الشاي بالحليب. فالكوب يحمل براءة المكان، وعلامات التفسخ، والعقاب، والموت، التاريخ وأخيلة الحشرة، واللذة، تحقيق الذات، والانخراط في قوة الجسد معا.

وعلى خلاف الجسد، جاءت مناقشات الشخصيات الفكرية، والسياسية حادة، لكنها تختلط أيضا بالغياب، وقوة الانفعال ؛ فجزرة يتميز بالجدية، وينتقد عدم اتحاد مصر والسودان، وعزام يرى أن الوحدة كانت وسيلة وليست هدفا للتخلص من مسلسل الانقلابات، وحسام خياطي ضد التقسيمات السياسية مثل اليمين، واليسار، والتخلف، والتقدم، والبعث والقوميين، وعقب نهاية الوحدة رأى حمد رشيد أن السبب اختلاف النظامين، وتحدث عزام عن البترول والمؤامرات، والإعداد ثم تركوا البنسيون، وتفرقوا.

إن الرغبة في تأويل الحدث تختلط بتأكيد الاختلاف، والانعزال الكلي أحيانا عن الآخر، ولذة انتشار الكلام واختلاطه في لعبة الاختلاف والتداخل التكويني. وقد بدا هذا من خلال اتحاد الشخصيات في المكان، وتعارض أفكارهم، وضيق غسان بمناقشاتهم التي لا تنتهي، وكأنها رغبة ضمنية في وحدة متخيلة، أو تجسد شخصي يناهض القوة الغريزية من خلال الحلم بتسمية واحدة لهذه القوة الأعلى دون الوصول إليها، فجاء المستوى السردي للمناقشات مكملا للأول ؛ تختلط فيه مشاعر التحقق، بالانفعال المتدفق، ورغبة التوحد بحدث التفكك، وأحلام الخصوبة المتعالية، بعقدة الذنب، والموت، ومن ثم الحنين لبراءة تكوين متجدد للجسد بكل مستوياته الدلالية المحتملة.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى