الجمعة ١٨ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨

حين تكرّمُ العرابــدة

بقلم: سعدي صباح

دقت أجراس الخريف على مباني المدينة، وغُصّت الحجرات ببراعم الصلصال، ففرّ مني إله الشعر ونام نومة العصافير! فصفّقتُ له مقابل زرع بذور الطين، لتعطي أكلها مع أذيال الربيع، ولم يعد يهمّني هراء السيّد خبيطة الذي ما أنزل الله به من سلطان،..أنزله الله عنوة على رأس المدينة بعدما عجّت بطحالب الرذيلة والبهتان!...يعاقر الخمر..أسير اللهو والشهوات.. زير نساء ومرتشٍ برتبة نقيب! يجالس السكارى ومنبوذي المدينة جاعلا منهم درعا وحاشية! يتّخذ من الشعاب وكرا للخلاعة! يردّد أغاني الشابّة خيرة ذات الكلمات الهابطة والبذيئة،لكنه يقود الرعية من أذانها كالشياه! ولكبائره التي تعذّبني لم يعد في رأسي عربيد من أدهى العرابدة يدعى: "السيّد خبيطة "،

يفتش أوراقي ويمضي دفاتري (خلاص يعني)..هو يوقّرني إلى أبعد الحدود ويجلّني حد القداسة، لكنني أمقته حد الحقد والكراهية، ردعتُ كلابه المسعورة بعساكر إرادتي،أعطيت عهدي لبراءة بشرية بوداعة العصافير الحالمة،تطير بها أحلامها الغضّة مع إشراق كل صبح ملبّية نداء الجرس،اخترت خلوتي وانفرادي إزاء براعم قد تتحول إلى رجال بطهارة ابن عربي والحلاج! لحّدتُ العاشق المعذب بدمي لعاشقة حديثة العهد بالتمهين،افتعلت الكبرياء على حسناوات مهنتي،

أحرقت قصائد الحب التي كنتٌُ أسكب عطرها لقنص العذارى، أقلعت عن الحديث مع سلمى وبثّ الرسائل المفخخة بين الحجرات،جمعت أتراب حارتي بتابوت من فولاذ ورميته بلجّة البحر! عملتُ فرعى الله عملي وسطع نجم المدينة بذرى الأقاليم ونالت أرقى الرّتب،غُصّت بيوت الظافرين بالبشرى، وعندلتْ عنادل الطرب،تعالت الزغاريد وحلّ المهنئون من كل حدب،تهامس روّاد الظلّ على الجميل وتهادت بوابل الثناء كخمر أيّار الذي يسكر السمرمر فيترنّم بالغناء!

وشاعت مراسيم حفل تكريمي عرفانا بالمعجزة،أطلّت جوناء الصبح على شمعة تتحدّى الذبول،آملة صنع أبطال تقطع الدرب على خطى بحيرد والأمير،تحرس العقيدة والوطن،لاحت نوارس النصر فشدّت أشباح الهزيمة رحيلها نحو التلاشي،أمشي وأمشي أكسّر طحالب الهوان... عسكري ينتظر عيد الكرامة..إلى أن دلفتُ مع أطياف الضحى على دعوتي المزركشة بألوان الربيع:" إلى الأستاذ سالم الرجاء الحضور إلى الحفل الذي أقرّته الولاية مساء الخميس بمدرّج ابن خلدون،

حضوركم شرف لنا..." لويتُ إلى الغرفة خلعتُ بردتي المعفرة بالطبشور وارتديتُ البدلة المغربية التي اقتنيتها من فاس يوم فوزي بالجائزة المغاربية للشعر وكرّمتُ خارج الحدود!ورحْتُ يماشيني سمير وفرحتي طائر السّحر تسبقني إلى العرس المنتظر!.. وقد عجّت الساحة في لمح البصر.. سيارات.. رجال ونساء وفتيات.. مجموعات صوتية.. سلطات مدنية وعسكرية تتشرف بالمبادرة الأولى في حياة المدينة منذ تحرير الوطن!فرق الأمن بالزّي الأزرق تأمن الحدث،..تفضّلت بالولوج يلاحقني سمير وقد توشح بوشاح الفرح تراشقه فتاة بزي إمرأة بالسوسن عربون وفاء! ولأنني لا أبالي بالأضواء اخترت مكاني خلف الجموع،أنتظر الانطلاقة على أحر من الجمر!

وعلى حين غرّة تمتطي حسناء ظهر المنبر المكلل بالورود،خمريّة بملحفة تحمل الذاكرة وخلاخل تعزف اللحن العتيق،وقد أطلقت العنان لخصلاتها لتوزع عبقها على الحضور!.. مدور من فضة بيضاء يتدلى من مفترق تفاحتين كالعنقود وبرشاقة ريم الفلاة راحت تغازل الميكروفون.. طق طق طق،استهلّت قصيدتها الترحيبية التي أعدتها ليلة البارحة وحفظتها عن ظهر قلب.. فتسللت إلى قلوب الحيارى كلحن المطر!: " سيداتي سادتي أيها الحضور الكريم خميسكم ورد وعطر وشذى.. أرحّب بالسلطات المدنية والعسكرية التي جاءت بقلوب مفتوحة لتشاطرنا نكهة اللقاء.. وأشكر السيد الوالي على تمويل هذا الحفل الذي سوف تكرّم فيه شخصية بيداغوجية فذّة جديرة بالتكريم..ألا وهي شخصية السيّد (...).. الذي ضحّى بساعات راحته فليتفضّل مشكورا.. تحت تصفيقاتكم.." وانطلقت الأذيال: " طاف طاف طاف "..

اشرأبّت الأعناق وتهامس ذوو العقول الراجحة وبدأت ترمقني النظرات.. وتسمّر البعض في ذهول واستمرّت الحسناء.. " وأننا دعونا صفوة ممن أحرقوا النجيع مقابل جني الجنى... وصفّق ضحايا الطبشور من هامشهم متوهمين أنّهم ذُكروا عند ربّهم! وأطلقت بقايا امرأة قريبة من رمس التقاعد زغرودة اهتزّت لها ثريات المدرّج! وانحنت خفافيش انهزاماتي إجلالا لتكريم السيّد خبيطة! ثم لا تلبث أن تطير إلى مغناي لتعزف لزوجتي لحن الغدر وتسمعها أغنية قتل الأحلام! وتسللتُ وسمير من باب النجدة أجرّ أذيال الخيبة! أنا الساعة ممن كُتبَ عليهم الفشل بالإكراه..وينهض الشاعر بداخلي وفي جعبته قصيدة تمدح السيّد خبيطة تناشده بالدهاء..إلى أن تمزّقُ ستائر الظلام أشعة الفجر الآتي.

بقلم: سعدي صباح

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى