الاثنين ٢١ نيسان (أبريل) ٢٠٠٨
أسامة
بقلم رانية عقلة حداد

هوية هاربة تحت سماء مسقوفة بالرعب

لم يكن ذاك مطرا تجود به سماء أفغانستان على نسائها... إنما سياط ماء تجلد وتمحو ما تبقى من كرامتهن وعزتهن.

هذا هو واقع حال المرأة الأفغانية في ظل حكم طالبان، وكما تعكسه كاميرا المخرج الأفغاني (صديق بارمَك) في فيلمه "أسامة"... حيث تتدفق الأفغانيات كأمواج هادرة تطالب من أسفل البراقع الزرقاء بالحق في العمل الذي يحرّمه عليهن حكم طالبان؛ ففَتح النار وخراطيم الماء عليهن كي تقضي على من لم يقوَ الفقر والجوع الفتك بهن بعد.

لو أدرك الماء يوما أنه سيخون سلالته ويصبح أحد أسلحة طالبان ضد حرية وكرامة الإنسان لتبخر خجلا أمام البراءة والهوية المسلوبة لتلك الطفلة الأفغانية، والتي منذ هذه الحادثة التي شهدت ستهجر أنوثتها لتصبح أسامة (مارينا جُلبهاري)، كي تقاوم هي وأسرتها شظف العيش بالتحايل على أحكام طالبان المجحفة والتي تمنع النساء لا من العمل فحسب وانما من الخروج من المنزل إلا برفقة ذكر.

هكذا راحت الجدة تعد أسامة كل ليلة لهذا التحول... تقص لها الحكاية ذاتها... عن ذلك الصبي الوحيد واليتيم الذي طلب من الحكيم حين أرهقه العمل ومسؤولية اخواته البنات أن يحوله الى فتاة كي يرتاح من عناء العمل... فأشار عليه بالعبور من اسفل قوس قزح فهو الكفيل وحده بتحويله... العبور أسفل قوس قزح كفيل بتحويل كل من يعبر من أسفله الى النوع الآخر كي يتحرر من الألم، هكذا كان على تلك الفتاة التي لم تتجاوز الاثنتي عشرة سنة بعد ان تعبر بوابة النجاة تلك كي تتحول الى ولد... الى أسامة، فتتمكن من إعالة جدتها وأمها الطبيبة التي مُنعت من العمل في المستشفى في ظل هذه الأحكام كما مُنعت من الخروج من المنزل الأّ بحراسة أحد رجال العائلة، وبما ان جميعهم استشهدوا بحروب أفغانستان المتنوعة، لم يكن هناك من سبيل أمام الأم سوى آخر ذكرى من زوجها... ملابسه وقد أعمَلت المقص فيها لتناسب الابنة، كما أعمَلت الجدة المقص في شعر الحفيدة ليناسب صورة أسامة الذكر حامي ومعيل العائلة الجديد.

تَزرعُ ضفيرتها...كي تنبت أملاً

بمشهد آسر وحزين أشبه بطقس جنائزي تزرع أسامة ضفيرتها المبتورة في أصيص زهور، تحتفظ بها كشاهد على أنوثتها الموؤدة... وكحلم سينمو بمنأى عن الجسد.

بعدها، قادتها الأم الى متجر رفيق زوجها القديم كي تجد لأسامة فرصة عمل لديه، دون أن يغيب القلق والترقب عن أحداق جميع الأطراف، فغلطة صغيرة ستقود أسامة الى الموت في حال اكتَشف أحد عناصر طالبان انها فتاة بزي صبي، وفي حذر وحرص فائق باشرت أسامة العمل في دكان الحليب ذاك تحت رعاية صديق الوالد.

تَرسمُ... كي لا تنسى هويّتها

إصبع مشبع بشهوة الحنين... راح يُشكّل البخّار المتكثف على زجاج المتجر بملامح الأنوثة... لم يكن هذا الاّ إصبع أسامة وهي ترسم... كي لا تنسى هويتها حيث تمتزج في الخلفية مع ملامح هذه الصورة خطوات طالبان المتوحشة والثقيلة.

لم تغادرها لحظة أي من مشاعر الذعر والخوف... ولم تكن هذه المشاعر مقتصرة على أسامة وحدها، وانما هذا حال جميع النساء الأفغانيات تحت حكم طالبان الذي يصادر إنسانيتهن وجميع الحقوق المرتبطة بها، حيث تتساوى المرأة بالدجاج هناك حيث أودع عناصر طالبان النساء المتظاهرات في القن وأحكموا إغلاق القفل.

بين نوبة قلق وأخرى بقيت أسامة تحلم بطفولتها الهاربة... تتراءى لها كصور وهي تقفز وتلعب بالحبل فيما تكون وهما... الى أن اقتادها أحد عناصر طالبان لمعسكر تدريب الفتيان وهناك لم يمنحها الحرز الذي تتوارى خلفه (اسم زعيم القاعدة) الحماية الكافية فمعالم أنوثتها فضحت سرها.

من منح لتلك الأيدي شرعيتها ؟!

كان لا بد وفقا لمنطق طالبان أن يُنفذ بالطفلة أسامة حكم الإعدام في الساحة العامة؛ لخروجها عن الشريعة الخاصة بطالبان والتي لا تستند إلا لعقليتهم المغلقة ولنظامهم المتسلط والعنيف، فاقتيدت الى منصة الحكم جنبا الى جنب طبيبة أجنبية متهمة بالعمل في المستشفى، والى صحفي أجنبي متهم بالتجسس على طالبان حين صوّر بالكاميرا خاصته أحداث مظاهرة النساء الأفغانيات.

نُفذ حكم الإعدام بكل من الطبيبة والصحفي...فيما نُفذ بأسامة حكم أشد من المقصلة ففي اللحظة الأخيرة منحها القاضي لمُلا طاعن في السن بناءا على رغبته، وينتهي الفيلم بأن أضافها المُلا الى ممتلكاته؛ الى مجموعة نسائه الأسيرات اللواتي اغتصبهن من أزواجهن أو من حياتهن الخاصة، لتنتهي بذلك حياة الطفلة قبل أن تبدأ، ولتغدو أسامة رمزا لإنسانية وحقوق المرأة الأفغانية المنتهكة وللطفولة المسلوبة في ظل حكم طالبان ووفقا لمنطقهم الجائر.

(أسامة) هو الفيلم الأفغاني الأول بعد سقوط حكم طالبان على يد القوات الأمريكية، والمُنتَج من قبل (أفغانستان، اليابان، ايرلندا) عام 2003، ويستند الى قصة حقيقية، ويذكرنا في شكله الفني بسلسلة الأفلام الإيرانية التي تدور أحداثها حول حياة الأطفال تنعكس من خلالها مشاكل ومعاناة مجتمع بأسره بأسلوب بسيط ومحكم، تلعب الدور الرئيسي في الفيلم الطفلة الأفغانية (مارينا جُلبَهاري) بأداء آسر وعفوي، وبعينين معبرتين ننتقل عبرهما الى عمق مشاعرها، وأدت الدور ببراعة على الرغم من انها ممثلة غير محترفة، كانت تعمل متسولة في شوارع كابول لتعيل أسرتها عندما اختارها المخرج لتلعب هذا الدور، وحازت عن هذا الدور على جائزتين كأحسن ممثلة، فيما حاز الفيلم على إحدى عشرة جائزة.

الغفران...لمن ؟؟

" لا أستطيع النسيان لكن أستطيع الغفران " بمقولة نيلسون مانديلا هذه، صدّر المخرج فيلمه، فإلى أين يريد ان يقودنا صنّاع الفيلم ؟! أالى عدم نسيان أفعال طالبان وإدانة حكمهم وفكرهم … ولكن أي نسيان؟! أنه عدم النسيان المُتوّج بالغفران … ولمن يراد لنا ان نغفر ؟؟ ألطالبان أم للقوة التي أوجدت هذه الحركة ؟! حيث بيد غذّت فيها الأصولية الدينية، والان تجلدها بيدها الأخرى.

من الجدير بالذكر ان المخرج يبدأ الفيلم بمشهد مُصور من وجهة نظر الصحفي الأجنبي - الذي حُكم في نهاية الفيلم - لتتحد معها وجهة نظر المشاهد (نحن) حين نتبعه كلما تبعنا كاميرته، وكأن صناع الفيلم يقولون لنا ان الإعلام الغربي شاهدا على هذه الانتهاكات، ووحده القادر على رصد الحقيقة وتقديمها لنا بحيادية،

لكن هل يتمتع الإعلام الغربي حقا بهذا الحياد ؟

... وهل علينا دائما ان نتبعه؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى