السبت ٣ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم أسامة كمال

وسقطت أوراق البصل

رأيته أول مرة أعلى من كل شيء، مرفوعاً على الأكتاف، يرتدى من عليائه زى المجندين الأخضر الثقيل الشتائى، وموشحاً بكوفيه فلسطينيه. ويتحرك كموجات بحر تهدأ حيناً وتثور حيناً آخر. يهتف بصوت هادر معارضاً عاصفة الصحراء، وحرب الخليج الثانية عام 90. صوته يلمس وتراً ما داخل القلب. وحلم كلماته الهادرة يرتطم بأجسادنا الواهنة الصغيرة، فنرددها كعصافير تتعلم أول دروس الطيران، فتحدث زلزالا في كل ساحات جامعة القاهرة.

لم أكن وقتها منحازاً لدكتاتورية صدام حسين في غزوه للكويت، وبالطبع غير راض عن التدخل الأمريكي في المنطقة العربية. الوضع ملتبس ومحزن في آن واحد. لكن ربما هي الرغبة في الخروج عن المألوف، والتمرد بروحي الصغيرة النديّة – وقتها طبعا –.

كذلك لشغفي بالقراءة عن الحركة الطلابية المصرية أعوام 35، 46، 72، 68، واندهاشي الطفولى بصور الطلبة الثائرين إبان تلك الحقب المختلفة، بدءا من عبد الحكيم الجارحى واستشهاده الجسور عام 35، وحتى احمد عبد الله بسمته النبيل ونظرته الرقراقة الحالمة، ومناداته بالديمقراطية للشعب، والتفاني للوطن.

وانتهت المظاهرات، وغابت بنا الأيام، ولم يبق لي منها سوى أن ابحث عنه.
ابحث عن من جعلني اشهد حالة تمرد نبيلة مؤقتة، واستشرف عالم تمنيت أن أراه.... ووجدته في إحدى الندوات، وتوجهت إليه كمريد التقى بشيخه، وصرنا صديقين بومضة العينيين الأولى. وعرفت أنه يسكن معي في المدينة الجامعية، بل وفى مبنى مواجه للمبنى الدى اسكن فيه..... وعدنا سويا وحكي لي عن نفسه، وحكيت له عن نفسي.. حكي لي عن تمرد مدينته -سنورس- على الشرطة، وكيف شارك في التمرد، وتم القبض عليه، وكيف رأى بعينيه أوراق بصل حانية رقيقه تتساقط من السماء إلى الأرض، أثناء مغادرة عربة الشرطة لقريته المتمردة.... وصعد إلى غرفته، وصعدت إلى غرفتي، ولم انم ليلتها، لأنه ملأ كياني بحلم ابيض، جال في كل طرق رأسي المظلمة، ولما أتى الصباح، بحثت عنه، فوجدته واقفاً في نافذته، يلوح لي بيديه، وأسفله شجرة توت مثمرة، وأوراقها حمراء زاهية.... ولم تجد عيناي أي شجرة أخرى في ربوع مدينة الطلبة مثمرة أو زاهية، فتيقنت لحظتها أن أوراق البصل الحانية الرقيقة سقطت على صديقنا، وهو يغادر مدينته الصغيرة، في رحلته الأولى مع نسمات الحرية.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى