الأربعاء ٧ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم مجدي علي السماك

ذلك الشيء

هو شهر شباط. الوقت ضحى. السماء داكنة وشاحبة، كسحنة جندي ذاهب إلى ساحة الحرب واثق من هزيمته. الضحى والقهوة يتعانقان، شربت قهوة الضحى، فاكتملت اليقظة في رأسي المثقل ببقايا نوم طال به الليل، وانسلت الصحوة إلى جسدي تنبهه متهادية بوقار جليل. إلى النافذة امتد كفي وفتحتها إلى النصف، اتكأت على حافتها الرفيعة، رنوت إلى حافة الأفق، ثم سحبت نظراتي واعدتها بسرعة إلى أسفل النافذة، إلى مساحة صغيرة متربة ثبت نظري فرأيت قط وقطة.. بحلقت إلى قط اسود متسخ وملطخ بالطين، شكله يوحي أنه أجرب.. وقطة بيضاء نظيفة يلهو الهواء بشعرها الناعم الطويل الناصع الجميل. استلقت القطة بجسدها إلى الأرض وبالأرض التصق ظهرها. مدّت أطرافها الأمامية والخلفية على آخرها. تمطت.. برفق أخذت تتقلب بجسدها المرخي وبهدوء تتلوى، جسدها لين كأنه بلا عظام. ماءت برغبة عارمة للمواء الناعم الهادئ، استمرت تموء بإغراء، غنجت، فارت، تثنت، ارتخت.. اقترب منها القط نافشا جسمه وشعره.. ضربته برقة ببطن ساقها الأمامي متمنعة، فقفز مبتعدا إلى الوراء قفزة واسعة. اعتدلت القطة ثانية، تبادلا النظرات، تشابكت النظرات متلاحمة في دائرة أخذت تضيق وتصغر في المسافة القليلة الكائنة بين جسديهما. ماء.. ماءت.. مواؤهما اقرب إلى الغرغرة.. أعادت ظهرها إلى الأرض وتمطت.. ماءت، تلوّت، توهجت.. اقترب منها بحذر مقوّسا جسده المتسخ.. سكتت، ولنداء غريزتها استسلمت.. وقع عليها.. غاص في غريزته، ارتعش، انتعش، انتفض.. مدد جسده إلى جانبها مزهوا. أقعى، صار يغمض عينيه ويفتحهما مطمئنا كأنه يحمد الله ويشكره.. في عينيه بريق سعادة، ووهج نشوة حافلة بالرضا.

أغلقت النافذة.

جلست..

أدرت مفتاح آلة التسجيل على أغنية لفيروز. بقي المنظر عبر النافذة ماثلا في ذهني.. شبت في عقلي الأسئلة وهبت به الأفكار.. وجدتني أتساءل، كيف كان يفعل الحاج عبد الله هذا الأمر مع زوجته بعد النكبة مباشرة.. أثناء الإقامة في الخيمة، قبل أن تبني لهم وكالة الغوث البيوت، أو هي غرف من طين أسموها بيوتا..

ملايين الخيمات المتلاصقة الكثيرة الضيقة.. يجب أن اسأله لا محالة.. سأجمع كل شجاعتي لأسأله. ولماذا لا أسأله؟ هل هو سؤال محرج ؟ فليكن ! المهم أن اعرف.. هل السؤال عيب ؟ الحاج عبد الله رجل طيب ويعرف نقاء سريرتي.. هل السؤال حرام ؟ لا.. أبدا.. الله حث على فعل هذا الأمر الغريزي وأجزل العطاء لمن يفعله بالحلال، ويثيب من يتقنه لأن الله يحب إذا عمل أحد عملا أن يتقنه.. إذن لماذا لا اسأل؟ والله سأسأل.. والجرأة موجودة.. والحاج عبد الله موجود، لقد كان شابا متزوجا أيام النكبة، وقبلها كان مقاتلا.. وهو عايش الكثير من الخطوب على مدى عمره المديد، وها هو يحيا مرغما على الحياة لكثرة الحيوات في حياته.

أغلقت آلة التسجيل.

خرجت.

في طريقي الممتد إلى عشرات الأمتار أخذت اشتم والعن في سري كتب التاريخ، لماذا لم يؤرخوا لتفاصيل حياة اللاجئين اليومية في ذلك الوقت؟ من أين لي أن اعلم كيف كانوا يأكلون، يشربون، يتبولون، يتبرزون، يغتسلون، ينامون، يتدفئون، يلهون، يتناسلون، يتزاوجون، ويعالجون المرضى. إذن أنا أمام نصف تاريخ مفقود، آه لو أمسك بنصف التاريخ لأنهشه بأنيابي. هل التاريخ مجرد معارك وحروب؟ أهو انتصارات وهزائم؟.. لا لا لا.. ألف لا.. لا تاريخ إلا ما يؤرخه وجودي اليومي.. تاريخي هو تفاصيلي الدقيقة، وما تتأوه له ضلوعي وتحترق به أنفاسي.. لا تاريخ خارج الآهات والأنات والعذابات.. ولن اسمح بأي انتصار لإسرائيل على جسدي وغرائزي وروحي.. سيستمر التزاوج والتكاثر رغم أنفهم.. سوف أهزمهم بغريزتي وتناسلي.. وستبقى شهوتي مشرعة كالجحيم في وجوههم، ستظل غريزتي سيفا يسله الزمن على رقابهم.

وصلت إلى دكان الحاج عبد الله، وسط المخيم، هو دكان صغير لبيع الأدوات المنزلية، يقتعد كرسيا بلاستيكيا رمادي اللون، خلف طاولة خشبية قديمة، غطى سطحها بقطعة نايلون تلمع، كل شيء في الدكان كان يلمع وعلى درجة من النظافة يعجز عنها الشباب، الصحون، الطناجر، الجرادل... حتى وجه الحاج عبد الله على ما به من ندوب وتجاعيد كان محلوقا ويلمع، وتفوح منه رائحة كولونيا مصرية الصنع ماركة ثلاث خمسات. ما أن رآني حتى ملأ مساحة وجهه النحيل ابتسامة طرية، شدت جلد وجهه الناشف وأزالت التجاعيد التي تحيط بزوايا فمه وأسفل انفه، وراحت تتطاير من فمه الضيق كلمات الترحيب..

  يا هلا.. أهلا أهلا أهلا.. يا ميت حيالله.. أهلين يا باش مهندس.

قرب لي كرسي صغير. جلست. أخذت أفكر كيف سأجرؤ على السؤال.. على حين أخذ هو يجهز الشاي. لا بد أن استدرجه بطريقة ما، علىّ اللجوء إلى التكتيك.. فسألته عن تفاصيل الحياة في الخيمات بعد النكبة مباشرة.. راح يتحدث ببطء، فأخذت استقبل بحرارة كل الكلمات التي تولد من فمه بعملية قيصرية. بعد لحظات وجدتني نصف عقلي معه، والنصف الآخر يبحث عن طريقة أنقض بها عليه بسؤالي. شعرت بالارتباك كمن يريد أن يقول لفتاة بحبك، شعرت بخوف ورهبة اصطكت لها أسناني، تظاهرت بأنني اشعر بالبرد.. من المؤكد أن وجهي صار أحمر كعرف الديك، لا بد أنه يرى تقلبات ملامحي المتبدلة مع كل لحظة تمر، كل لحظة تساوي ساعات أتلظى بها على نيران تشتعل في جوفي.

توقف الحاج عبد الله عن الحديث. صب الشاي. وضع الكوب أمامي، حدقت بالبخار الحار المتصاعد بحركة لولبية، نفخت عليه، ارتشفت رشفات سريعة إلى درجة أنني لم اشعر بسخونته وهي تلسع لساني وتكويه إلا عندما شربت الشاي كله.
وجدتني اجمع كل شجاعة الدنيا في داخلي وسألته بصوت متردد متقطع..

 عندي سؤال يا حاج عبد الله.
 سل ما تريد يا بني !
 لكنني خجلان.. يمكن عيب !
 لا تخجل ولا حاجة.. أنت راجل.. كلنا أولاد تسعه.. أنا مثل أبوك أو جدك.
 كيف كنتم تفعلون ذلك الشيء ؟
 أي شيء تقصد يا بني ؟

دبت قشعريرة في جسدي، تململت، سكت، حاولت أن ابتسم، وبذلت جهدا كبيرا وأنا أحاول صنع ابتسامة مهما كانت صغيرة تفي بالغرض، ابتسامة تخفي خجلي وتخفيني، على الأقل توقف تدفق العرق، أريد التستر والاختباء وراء بسمة واحدة ولو صفراء.. أخذت أشير بأصابعي متوترا مرتبكا، ربما وجهي صار أصفر مثل البطاطا المقلية..

 ذلك الشيء يا حاج عبد الله.. في الليل !

فهم الحاج ما اقصده.. غرق في صمت عميق وعارم.. صمت يفوق قدرة أي آدمي على الصمت، ربما هو صمت لا يحتمل ثقله بني البشر كلهم لو اجتمعوا.. لم أكن اعلم أن الحاج عبد الله لديه هذه المعجزة في القدرة على تحمل آلام هذا النوع من الصمت، كأن صمت الدنيا كلها معبأ في صدره ورئتيه.. أخيرا بعد كفاح مع صدره المهتز صعودا وهبوطا فتح فمه نصف فتحة، راح يتحدث بصوت دام ملتو أشعرني وكأن كومة رمل جاثمة في حلقه، وبات واضحا لي أن الكلمات تنزف من حنجرة مجروحة بمخالب ذكريات بعيدة متوحشة، أكثر وحشية من وحوش الغابة.. اسمع يا بني..

  ذات ليلة في الأربعينية، بعد النكبة مباشرة، كان البرد شديدا يجمد الدماء في العروق، ويحوّل الجلد البشري إلى رقائق صقيع، والرياح باردة تهب عاصفة مجنونة، عاصفة خرجت عن سيطرة أي قانون في الطبيعة يحكمها ويكبح جماحها، والسماء غزيرة المطر، بل كانت السماء تصب الماء صبا.. في تلك الليلة.. آه من تلك الليلة.

توقف الحاج يلتقط أنفاسه، ندت عنه زفرة أو آهة، وربما هي ضحكة مشوهة المعالم، ناتجة عن آلام كبيرة، قد تزداد الآلام أحيانا إلى درجة الضحك، فكل شيء إذا زاد عن حده انقلب إلى ضده.. وجدتني اقطع استراحته..

 كيف كنتم تتدفئون؟
 كنا نتدفأ بأنفاسنا عندما نجتمع في الخيمة.. في تلك الليلة يا بني شعرت ببرد شديد يهز بدني ويقرصه، وتنتفض أبدان أطفالي الصغار وترتعش، أعطيتهم بعضا من أغطيتي وأغطيه زوجتي.. الله يرحمها.
 هل كانت الأغطية تكفيكم؟
 لا. لم تكن كافية، وكانت زوجتي مريضة تكح وتخرج الكحة من قاع صدرها مع خشخشة شبيهة بفرك أوراق ملوخية ناشفة.
 ألم تدخل مياه المطر إلى الخيمة؟
 كثيرا ما كانت تغرق فراشنا وملابسنا.. كثيرا ما تبللنا.
 أين كنتم تغتسلون؟ وكيف؟ وكيف كنتم تتبرزون؟ وأين؟
 كان ربك يفرجها، ربنا كريم يا بني.
 ماذا حدث في تلك الليلة يا حاج عبد الله؟
 قررت أن افعل ذلك الشيء بهدف التدفئة.

وبينما أنا منغمس افعل ذلك الشيء طارت الخيمة وأخذتها الرياح بعيدا.. بلّلنا ماء المطر البارد كالثلج، والأطفال أيضا تبللوا بملابسهم وهم نيام.. إثر ذلك مرضت ابنتي الصغيرة آخر العنقود، كان عمرها سنة ونصف.. صار جسمها ازرق، ثم ارتعشت، انتفضت، تشنجت، تخشبت، وبعد يومين ماتت.

ما أن لفظ الحاج عبد الله كلمة ماتت، حتى شعرت وكأن حرف التاء الأخير وعاء كبير، بل هو لا نهائي في كبره، يجمع كل عذابات العالم داخله، أحسست بهذا الحرف كأنه مكون من آلام وحطام وأنين.. بدأ زوري يتلوى وبلعومي ينقبض.. جف لساني ونشف، يبدو لي أن بخارا ساخن جاف تقذفه آلة بخارية حلت محل رئتيّ، لم يتبق في فمي أي ريق لأبلعه. تملكني شعور أنه لا يتحدث كلام كأي كلام.. لا.. كانت كلماته كرات حديدية يقذف بها أذنيّ، صرت اسمع بعينيّ وانفي، كل شيء فيّ استحال إلى آذان تسمع.. وأنا اشهق مصائب الماضي إلى جوفي، فانقلب جوفي إلى حاضنة للأزمان كلها، بما فيها من ويلات وأرزاء.

خرجت مكسورا من دكان الحاج عبدا لله.. عدت إلى بيتي.. حدقت من النافذة.. لم أجد القط والقطة.. لقد ذهبا بمحض إرادتهما.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى