الخميس ٢٩ أيار (مايو) ٢٠٠٨
بقلم دولت محمد المصري

الـظّـل والسّـوْط

ما زال هناك.. يتربص بعينيه الحمراوتين خيالي.. ظلي الذي أسحبه بلا جدوى، أدعو عليه بالقصر والموت على أن يلمس الجسد الآخر المتنفس بشراسة الظلم، أيها الباكي في الزنزانة المنفردة، أما أطلّ عليك إيكاروس، عندما يطل خذ منه شموع جناحيه، انهبها أنت الآخر من تراث القسوة..لنُرِحْه من عناء الخسارة والسقوط كنقطة في بحر جاف ثم ألقي لي واحدا من صحوة. يخيل إليّ أن هذا المدبب سيهب من زاويته الحادة ليقتلع ما في نفسي من خواطر..لا تخصّه..صدّقني إنها تخصّني.. تخصّ فاجعتي ووجعي..أًغلق رأسي بين قدمي..أحشو أذني بشعر رأسي الطويل.. (سادتي يا سادتي أغلقوا وجوهكم بالدهشة والصمت..لن نكلفكم عناء المشاهد)

صه..لا تفكر..لا تناج..لا تسمع..احلم بموت لذيذ.. حنون، ينقذك من المكان الموحش، ألم أقل لك أيها المسبل على قائمة انتظار العدالة أن تلقٍِِِ بشباكك المنسوجة بصبر المتصوفين إلي..أرجوك..دعني أستمتع باصطياد ذاك الرابض غولا.. يسـمّنني.. يغذيني بالذل.. والقهر.. يكسر فسيفساء روحي..ليقتات بي زهوا، أنمو فيه جبروت سلطة..أثمر داخله حقارة حشرة تتضخم مروّعة ً البشر،لعنة الله على ظلي الغبي..إنه يودي بي إلى جهنم.. يستطيل من ضوء بارد لا أدري من أين يأتي، ليتهم يقتلون كل الأضواء، علـّني أبقى وحيدا بلا رؤية.. وكيف لي أن أعيد المغامرة وتجربتي الملتوية - في الحياة السوية - التي تتناقض مع مفهوم الاتزان والعقلانية، من قال أن المغامرة لا تبدأ بقرار متهور قد ينجح أو يفشل لينهار كل شيء أمام مجتمع فقد القدرة على الرفض والإجماع..ليكون الإنسان فيه نقيض أبتر لا يمكنه أن يفعل أكثر من التبول في فراشه حين تداهمه فكرة اللا مغفرة..أو يحلم بصرخة أخرى غير تلك التي أطلقها عند ولادته.

الحمد لله..أخيرا حلت الظلمة.. راحة نفسي كبيرة..أغفو مع أحلام مصرّح بها رسميا، ما الضير بكوب ماء لا يحتوي على جراثيم العالم الثالث ينساب إلى قديد جوفي..أو أغفو على لوح خشب.. يفرد جسدي المشلول بانثناءات قصرية تتناسب وشكل الرقعة أرضى بلوح المغْـتـَسَـل، وتدليك رقيق من يدي الحانوتي، بعد أن صرت مربع متوائم مع فضاء يتسع لكلب لا ينبح..هَـــوْ... هَـــوْ.. أعض على بسمتي المرتعشة التي تهرب فجأة ناعتة شخصي بأقبح الصفات..أنا المسكين المرتجف من هدير الكائن هناك..صدقني يا سيدي أنا مجرد ظلٌ لإنسان فانْ..أنا مجرد فكرة بإمكانك قتلها وقطع لسانها.. وشيّها على نار هادئة.. فقط خذ المبادرة لإنهاء مسرحي..إعدامي عليه..اهدأ.. إذا كان هذا لا يروقك يا سيد التاريخ.. مازال أمامنا الكثير لنتقاسمه نحن الأبرياء.

عنكَ..هاتِ عنكَ يا سيزيف.. ولو لمرة..اقذف صخرتك المقدسة على بعضي.. ودمائي ستنجيك من محاولة أخرى يائسة لأني سأطرد لعنة العذاب للأبد.. فجر على منحدرك الوعر لحمي.. قصة الثورة التي تنطفئ وتقلع عيون الخارجين عن القانون، وما الجدوى..ماذا قلت؟ لماذا أنا هنا..أي مصيبة اقترفت؟ قتلت.. سلبت..حرقت.. تآمرت..،المحقق جزم بأني متورط، بينما أجزم أني شبه فقدت ذاكرتي، وما يصلها من إشـارات يدعوني للتأكيد على استحقاقي لكل هذا..أنا مغضوب الوالدين..لم أبرّ بهما.. ألحقت عار الحقيقة بشيبتهما.. مرغت وجهيهما الحبيبين في علقم أنانيتي.. مضيت أحرر العالم..أحمق لم ينضم إلى صفوفه إلا الخونة الذين أوقعوه في شر أعماله.. أنا لست بالثائر..أنا ظل لإنسان فان.

يزمجر الرابض قبالتي في ذكرياتي.. يزجر هلوستي.. يهب لتأديبي من جديد بحديد كاوي..على بطيختي..على رغيف وجهي.. على درع رئتاي المثقوبتان بالحمى،ما أجمل أن يغمى علي في خضم التعذيب..إنها النعمة التي أستحق لتحمل المزيد..إذا لم أمت يا ربي..أوعز عبادك الصالحين لقتلي.. ليفقدوني عقلي إلا ما لانهاية، فلن أشعر بعدها بذنوبي.. تبور خطاياي،و ما لفائدة من البقاء حيا إلا إذا كنت فأر تجارب من الرتبة الأولى.. باختبار أنجع طرق التعذيب، وأفعل الأدوية الكيمائية المركبة، ومدى تأثير الطعومات المبتكرة على الفيروسات المحقونة في جسدي، إذن لم عناء العزل إن لم أكن فأر تجارب.. من قال أن المشنقة والمقصلة والرصاص والبوتاسيوم ليس عدلا إنسانيا..إذا لم يكن الموت حق فهل الإهانة والذل وعذاب السعير واجتراع الآداب الحيوانية بكل الرضا حق، يأتي الصوت الأجش كالخناجر المسمومة : - يا خنزير كفاك ثرثرة وإلا شطبت فمك من أذنك إلى الأخرى وأسلت دماغك من ثقب في حلقك المهووس بالحقوق.

وأسلت أفكاري مع فضلاتي حين عقد الخوف مساماتي، فلم تعد شعيرات بدني إلى مكانها الطبيعي يوما.. بل ظلت إبرا تنخز اتكاءاتي المحصورة في مربعي اللعين.. أرتعب من التفكير العابر بمغادرته، لألا ينقض عليّ المجتر.. المتسلط.. فيمزقني.. بادئا من جديد معاناة الجراح التي ترقى لمستوى الذبيحة الحلال...

أسأل نفسي تكرارا.. متى يستطيع الإنسان غض النظر عن ألم الجراح في غياب المسكنات.. المورفينات.. والمميتات في نهارات تتجسد بأوقات استفاقتي.. وليل يحسب بوقت نومي ألكابوسي..أعرف الثانية وجزء الثانية من دقات قلبي والكارثة تداهمني حين يتوقف النبض أو يبطئ أو يسرع لأبدأ العد من جديد في حساب الزمن، محنط بحاجة لمن يكتشف جثتي المتشرنقة.. لمن يباغت ملحمتي..

اسأل نفسي تكرارا...هل مازال الكون رحبا..أم أنه ضاق حتى صار بحجم زنزانتي.. والناس هل يمشون حين يريدون.. يتكلمون.. يرفضون أم أن الأقفاص زخرت بهم.

فكّاي المنتفخان من الورم يثقلان جمجمتي..أبلل فتات الخبز بالماء ليمرق إلى جوفي بأيسر ما يمكن.. دون أن أزعج الكتل الزرقاء والخضراء والمسامير والدمامل وبقايا أعقاب السجائر التي تمنحني النيكوتين كسر من أسرار الخلود....آواه..آه يا أنكيدو.. وما الفائدة من معرفة أسرار الخلود إذا كانت لا تستطيع حماية قوافيك المحطمة، يا قراصنة المدائن..لا تتاجروا بنبذ روحي.. لا تقامروا بحصتي في الوجود..تشتهون الحرب الطازجة.. وقطاف الفاكهة.. فاكهة من لحم المتعبين في دائرة حفاري القبور من الطراز الفاخر، أتضور قلقا لنحول الجبال التي تحدّني..أتقيء عبثا روائح عبقة بالزحام، مغموسة برشاوى غبية لا تورق إلا أرضا نائية وبعض الصامتين كصمت المقابر..الطيّعين كموتى يتلذذون بالرثاء، لنعود يا رفاقي في الزنزانات إلى أعمالنا.. نستيقظ كمحاربين أثخنتهم الجراح وجعلوا هزيمتهم دودة..دودة...أنا الدودة.

منذ فترة مجهولة لم أر حارسا من أولئك الذين يملكون فتحة خاوية عند صدورهم.. وأقراص صلبة في جباههم مبرمجة بتعليمات محددة..صارمة..إنهم نتاج التكنولوجيا المتطورة، لعل فيروس من فيروساتي الكامنة جعلهم يُضَيّعوا خريطة السرداب المؤدي إلى الهياكل العظمية في رمقها الأخير.. لكن..لحظة..ألتقط شيء غريب..أصوات غاضبة.. طرقات رهيبة.. مريعة في صمت البؤرة.. البوابات تفتح..أضواء غريبة تنتزع من العتمة كبريائها.. أصوات تنادي كالشارات الضوئية : - أَُخرج..أيها الغبي.. أخرج. أراقب الكائن المتربص بي..أطمئنه أنني لن أستمع لغواية المعتوهين، وقد تخليت عن نزقي وطيشي حتى رضيت الأرض وما فيها عني، كوني لا أزعج أحد بخطواتي ولا بترّهاتي، لكن الصوت مازال يغلق أذني بالصمم..أُخرج..أُخرج... يقترب الضوء والصوت من فوهة احتضاري..تتراقص القضبان الحديدية أمام خياراتي المنتهية..أتأمل رفيق دربي الظالم في سجني..أعتذر منه : -لا تغضب من الكفرة..المشركين.. ومن ظلي المتمدد. اصمتوا أيها الأغبياء.. الفقراء.. المعذبين.. توقفوا..لا تزعجوا سيدي الراقد، إلا أن سيدي لم يكن حاضرا بكل أُبّهتِه حين انقشع آخر خيط للظلمة.. فتحت عيوني بأصابعي المتخمة بروماتيزم التعفن.. ناجيت سريرتي.. هل هذا ما كان يحدق بي طيلة عهود من الزمن... ســــوطٌ غبي أحمق.. معلق في زاوية سجني يقطر دما، الأصوات تصرخ..أُخرج.. وأنا أبكي لوحدي بعد أن نسيت مصطلح الدموع.. ووحدي لم أستطع إلا أن أرحل عن صمتي الهزلي وأقول لهم : - أنـا مـجـرد ظـلٌ لإنـسـان فـانْ..لا تـكـتـرثـوا لـبـكـائــه...

........ ولــم أَخـــــــرج.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى