الأحد ١ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
دوغفيل
بقلم رانية عقلة حداد

حين ينهض الوحش الكامن

منذ البداية والمخرج الدنماركي (لارس فون ترير) يحاول خلق مسافة ما، بين المتفرج والفيلم؛ فتظهر في بداية فيلم " دوغفيل " انتاج 2003 فقرة مكتوبة تقدمه كفيلم مقتبس عن رواية مؤلفة من تسعة فصول وتمهيد، موحية بالشكل الذي سيتخذه الفيلم - شكل رواية أو مسرحية من فصول - وتحدد بداية كل فصل بكتابة على خلفية سوداء توضح رقم الفصل وعنوانه بالإضافة إلى صوت الراوي القادم من خاج الكادر، والحاضر غالبا على طول الفيلم كحلقة الوصل بين تلك الفصول، وكمعلق وموضح للأحداث، كأن ترير يبرم اتفاقا مع المتلقي بان كل ما سيشاهده هو محض خيال، ليس الإ عالم افتراضي، محاولا أن يبقيه متيقظا ذهنيا، وغير متورط عاطفيا مع الأحداث على مدار ثلاث ساعات تقريبا وهي مدة الفيلم، الأمر الذي يذكرنا بأسلوب المخرج المسرحي الألماني بريخت وفكرة التغريب، حيث يذهب ترير بإتجاه التجريب على هذه الفكرة سينمائيا؛ ففي بداية المشهد الأول (التمهيد) الذي يقدم بلدة دوغفيل نتفاجأ بمسرح الأحداث كمكان غير واقعي يكسر احساسنا بالوهم، فمن زاوية عامودية مرتفعه جدا وقبل ان تبدأ الكاميرا بالحركه نشاهد عناصر صغيرة الحجم تتحرك على مسقط أفقي شبيه بمخطط معماري، لنتبين لاحقا عندما تبدأ الكاميرا بالاقتراب شيئا فشيئا أن تلك العناصر هي أفراد البلدة، وأن لا وجود لجدران حقيقية تفصل المنازل ليست الإ خطوط طبشورية مرسومة على الأرض، كما رُسمت الأشجار، والكلب، وكثير من العناصر كأسماء الفراغات الوظيفية (منزل فلان، مقعد العجائز،اسم اسماء الشوارع...)، وليس المكان برمته الإ استديو تجري عليه الأحداث، يعطي الاحساس باننا أمام عمل مسرحي مصور للسينما اختزلت الديكورات فيه للحد الأدنى الضروري؛ بضع كراسي، مكاتب، أسرة، كل شيء حتى نهاية العمل بما في ذلك أداء الممثلين واستخدامهم للحركات الإيمائية عند قرع أو فتح الباب، يحاول أن يمنع المتفرج من الاندماج عاطفيا كي يبقى محتفظا بنسبة من الوعي تمكنه من التفكير والتأمل والنقد الذي قد يحريضه على التغيير.

وبعيدا عن الشكل التجريبي للعمل، تبدأ الحكاية في وقت ما من عام 1930، بوصول غريس (نيكول كيدمان) إلى بلدة دوغ فيل المفترضة والواقعة في جبال الروكي في الولايات المتحدة الأمريكية، باحثة عن مكان تختبئ فيه من أفراد عصابة ما، فيساعدها توم أديسون (بول بيتني) - مفكر البلدة كما يعتقد - كي يقبل أهالي البلدة التي لا يتجاوز سكانها الخمسة عشر بايوائها، لكن كان عليها أن تقدم خدمات لهم مقابل تلك الحماية، وبمجيء رجال الشرطة بعد مدة من الزمن للبحث عن المجرمة الهاربة يتزايد الثمن الذي على غريس أن تدفعه بالمقابل لأهالي البلدة من أجل حمايتها؛ فكان عليها أن تعمل ضعف ساعات العمل وبنصف الأجر الذي كانت تتقاضاه، وكلما ازدادت معاملتهم سوءا كلما ازدادت غريس تسامحا، وكأنها تقول في سرها يا أبتي أغفر لهم لأنهم لايعلمون ما يفعلون ثم تمنحهم خدها الآخر، وتستمر الأمور هكذا حتى الفصل الأخير، إلى أن يقوم أهالي البلدة باعلام أفراد العصابة عن وجود غريس ليحصلوا على المكافأة المالية.

ما سر غريس؟!

غريس هي ذلك الملاك الهارب من مملكة الظلام؛ غريس (النعمة) المتجسدة بتلك الابنه فتمردت على ارادة الشر... إرادة أبيها رئيس العصابة الذي سعى إلى اعادتها الى مملكته - هذا سرها الذي سنكتشفه في الفصل الاخير - لكنها اذ تختبئ لدى اهالي البلدة تتعلم أن عليها أن تدفع مقابل أن تحصل على الخير وليس هناك خير مطلق، هذا على المستوى الأول حيث يحاول ترير تعريف المفاهيم المجردة كالخير والشر والحب الكره، التسامح والعقاب... من خلال الشخصيات، وعلى المستوى الثاني يبدأ ترير في هذا الفيلم برسم صورة لأمريكا يستكملها في الفيلمين الأخرين من ثلاثيته (أمريكا الجميلة)، فيقدم هنا غريس (أمريكا) الطيبة التي تتحول من موقع الضحية إلى الجلاد الذي يقتل بلا رحمة في نهاية الفيلم، يبدو أن لا أحد يمتلك مفاتيح فهم غريس أكثر من أبيها والعكس صحيح، كلاهما يرى حقيقية الآخر وهي الغطرسه، "ترسخت بنفسك أفكار مسبقة بأن لا أحد يستطيع مجاراة معيارك الأخلاقي...

لذا تبرئي الجميع، لا أحد أكثر غطرسة منك" هكذا يرى الأب ما يقف خلف تسامح ابنته ازاء الآخرين وعدم رغبتها باصدار الأحكام عليهم، لكنه يعلم أنها لن تنجو من اغواء السلطة التي يضعها الآن تحت تصرفها، وفي لحظة تفكير وتحول تعود غريس إلى حضيرة الأب لتستخدم نفوذه في معاقبة أهالي البلدة بحرقهم ومحوهم عن الوجود، إذ على من اخطأ-كما البلدة- تحمل مسؤولية عمله ودفع الثمن، ومن يمتلك السلطة -كما (غريس) الآن- يمتلك الحق باصدار الأحكام على الآخرين وتنفيذها وفقا لمصلحته... ويستكمل ترير في فيلمه الثاني (ماندرلي)2005 صورة غريس (أمريكا) ونهجها مع الآخر حيث الغطرسة ونزعة السلطة تدفعانها إلى احتلال مقاطعة ماندرلي بقوة السلاح لتعلن تحرير العبيد فيها من الطغاة التي يحكموها وتتولى هي الحكم باسم الديمقراطية التي تريد أن تنشرها هناك، لتصبح هي الطاغية الجديد والمستعمر -تماما كما حدث في العراق - الذي يستفيد من خيرات هذه المنطقة.

بعيدا عن (دوغم 95)

كان لارس فون ترير قد اسس مع رفيقه المخرج الدنماركي -أيضا- توماس فنتربيرغ في كوبنهاجن مطلع عام 1995 حركة (دوغم 95) السينمائية واعلانا بيان الحركة أو ما اسمياه ب (نذور العفة)، واقسما على أن يلتزم كل منهما ببنود البيان وأهداف الحركة الداعية إلى حماية السينما من كل القشور الزائفة التي تحيط بها وتزخرفها فيتعذر معها رؤية جوهر الاشياء، فالهدف الاعلى هو انتزاع الحقيقة ونبذ كل اغراءات التكنولوجيا.

إلا أن ترير في هذا العمل يذهب بعيدا عن بعض البنود التي اقسم عليها، حيث لم يلتزم مثلا بالتصوير في الموقع الحقيقي للحدث فصّور في استديو مع استخدام ديكورات غير حقيقية، ولم يلتزم لا بقصة تدور في الزمان الراهن ولا بالابتعاد عن الأفعال الظاهرية كالقتل والاسلحة، أو بعدم استخدام الموسيقى المسجلة مسبقا.

الفيلم شكلا ومضومنا مفتوحا على النقاش والتأويل، لكن يبقى السؤال من الذي يخول هذا الشخص أو ذاك، هذا النظام أو ذاك، حق اصدار الأحكام على الآخرين ومعاقبتهم على اخطائهم وتبعا لأي معايير؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى