الثلاثاء ١٠ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم ناصر الريماوي

طفولة مزمنة (جدار من طين)

غفونا... كنا صغارا لم نتجاوز السابعة، لم أعد أذكر سوى ذلك الجدار القديم، وجدول الماء الصغير، لم يكن للطين المجبول بقش الحارات القديمة غير ذلك النقاء الوحيد إلى جانب الجدول المسكون بأحلام الصغار، لم تصفر الريح يوماً إلا ودنا منّا كغيمة، أذكر فستانها وحفيف الأرصفة المعفرة بأتربة النهار ترفل فيه حتى الكعبين كدمية، أذكر ان الأمسية أخذتنا ذلك الشتاء، ولم نعد... هكذا قالوا لنا عندما طالت الأمسية، لم تهدأ "مزاريب" الحي القديم على سفح تلك البيوت الطينية، ظلت تقذف بجل ماء السماء حتى إمتلأ ضرع الجدول... وفاض.

أنا عني لم أصحُ إلا على ليل يقف وراء ستارة النافذة الصغيرة، كان والدي يشير بعد مرور وقت تجاوز السنوات العابرة في عمرنا كأطفال... إلى حيز الفهم المبهم، كان يشير إلى خيط غير موصول من خلال النافذة لكنه مضاء وسط المساحة البعيدة المظلمة، ثم يهمس في أذني: من تلك الطريق ستأتي " ريهام " ذات يوم... ثم أغيب في خدر الجدار المرصع بقش الحكايات البعيدة، فلا أصحو إلا مع الليلة التالية... أتسمر إلى زجاج النافذة، أنتظر أن يأتي احد ما عبر تلك الطريق البعيدة... ثم تعلو النافذة أو أنخفض أنا... لم أعد أذكر تماماً... فقط كنت أذوي فأذهب بصحبة الجدار، ثم يأتيني الهمس دافئاً فأرتد: من تلك الطريق... ستأتي " ريهام".

كان الوقت ينفي فهم وجودي عند ذلك المكان الغريب، سألت والدي ذات ليلة، هل نحن بعيدون جداً عن " ريهام"... ؟ ظل صامتا،ً حدق أكثر مما يجب إلى وجهي، حسبته يضاعف من حيرتي...عن عمد، أعدت السؤال في الليلة التالية عندما لم أسمع برشرشة "مزراب" بيتنا في تلك الأمسية الماطرة، كان قد تجهم وهو يعيد إلي جسدي غطاء السرير.. ولما اعدتُ السؤال... أزاح الستارة وقال في ضيق أنظر لم تعد هناك طريق... لن تعود " ريهام"... قفزتُ نحوه، تعلقت به وانا أبكي بحرقة، أعادني عنوة إلى محيط النافذة... لمحت في غفلة منه جدارنا القديم وقد تهدم على حدود الجدول، الذي فاض في تلك الليلة... أغلق الباب خلفه ثم أختفى... لم يبقَ من بصيص يشير إلى حيث أجلس مكوماً وحيداً سوى بضعةُ قطرات من ضوء خافت، كانت قد تسربت عنوة من شق علوي لتلك النافذة... أما ذلك الباب فقد ضم إليه جداراً وجدولاً وغفوةً مزمنةَ وسنيناً أخذت تجري حتى مشارف العمر... ولم يفتح بعدها... ظل موصداً... مررتُ بهمس ثقيل.. طوقني، فصرخت في وجه أبي عندما لم يعد: لم أكن أعلم... ظننته بيتاً... كيف لطفل أن يميز بين الطين... وجدار قديم لمقبرة... كيف ؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى