الثلاثاء ١٠ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم مجدي علي السماك

ليلة في الحرام

بمشقة وعناء يزحف الصبي نحو السادسة عشر من عمره، جلد وجهه أسمر ومليء بحب الشباب، وبثور لها زيوان صغير أسود كلطع الذباب. توضأ الصبي وصلى العشاء، ثم ذهب وحده نحو الدكان الذي يريد أن يسرق منه قطعة شوكلاته بالبندق، لقد قرر أن يسرق وحده بعد أن غدر به شريكه في السرقة، ولم يعطه نصيبه في آخر مرة سرقا بها معا، رغم اليمين الذي حلفا به في آن واحد، وفي آن واحد وضع كل منهما يده على المصحف وهو يحلف أغلظ الأيمان على أن يسرق بإخلاص وضمير، ثم تمتما بالفاتحة لتأكيد اليمين على أن يسرقا سوية واقتسام ما يسرقانه بينهما بالنصف، بحق الله بلا أي خيانة أو غدر.. وفي سره راح الصبي يشتم ويلعن صاحب الدكان الذي يضع الشوكلاته على الرفوف العليا، بعيدة عن متناول اليد، وفوق هذا كله يجلس وسط دكانه متحفزا ومفتح العينين، مما قد يفسد عليه خطته التي جهزها في عقله ليلة البارحة، وسهر عليها معظم الليل يقلبها في رأسه حتى اكتملت معالمها وصارت خطة محبوكة.. وفي نفسه أخذ يؤكد أن صاحب الدكان بخيل، الله لا يمسي وجهه بالخير.. آه لو أنه يبتعد عن الدكان لمدة دقيقة واحدة لا غير، فليذهب إلى أحد مخازنه الكثيرة لجلب غرض ما، أو يذهب إلى الحمام ليقضي حاجته، أو يذهب إلى جهنم الحمراء.. خطا الصبي إلى عمود النور المقابل للدكان، إلى الجهة الأخرى من الشارع، هو عمود نور تشع لمبته نورا ضعيفا شاحبا اصفر، كصفرة بياض عين إنسان مصاب بمرض في الكبد، وبالكاد يستطيع نوره اختراق الظلمة بعد عناء مع زجاجه السميك المغبر، وكفاح مستميت مع العتمة المكثفة في المسافة الفاصلة بين اللمبة والأرض، فيحس من يقف في المكان أن للضوء آلام وأنين.. أسند الصبي ظهره إلى العامود، شاهد على مرمى بصره حبة فستق حلبي، نظر حوله واطمأن إلى عدم وجود أي شخص ينظر إليه، فقام بسرعة وحنى ظهره والتقطها وألقاها في فمه، وتلذذ بمص ما عليها من ملوحة قبل أن يقوم بفتحها وازدراد ما بداخلها، وعاد إلى مكانه ثانية، يتحسس وحمة كبيرة في صدغه، هي وحمة داكنة مائلة إلى الاخضرار، أخبرته أمه ذات يوم قبل موتها أنها توحّمت على لوز أخضر عندما كانت حامل به، ولم يستطيع الأب توفيره لها، ثم ولدته وربته وكبر وما زالت نفسها تهفو إلى تذوق طعم اللوز الأخضر حتى ماتت قبل عامين.

في السابق كان يشعر الصبي أن شريكه يتحمل وحده وزر السرقة، أما الآن فهو يحس أنه سيتحمل وزرها كله.. فطرق خاطره كلمات مدرس التربية الدينية..

 السرقة حرام يا أولاد.. حدها قطع يد السارق.

في عقله تصارع إبليس مع المدرس، وانقسمت خلايا مخه إلى قسمين، قسم في صف إبليس وقسم في صف المدرس..

الحسنة تمحو عشر سيئات، إذن سأسرق قطعة الشوكلاته بالبندق واقسمها إلى عشر قطع صغيرة متساوية، وآخذ منها قطعة واحدة وأعطيها صدقة لأي فقير مثلي، وبذلك أمحو سيئات السرقة! ولكن ماذا لو أعطيت فقيرا غيره قطعة أخرى؟ بذلك أنال الثواب وأدخل الجنة! من الضروري أن أفعل ذلك في كل مرة أسرق بها.. فالجنة تستحق مني التضحية.. رغم أنه لا يوجد بها شوكلاته بالبندق أو حتى سادة.. ولكن كما قال لي المدرس في الجنة سأنالها فور أن تخطر لي على بال.. هذا صحيح ولا شك فيه لأنه كلام الله جل وعلا.. ولكن كي أدخل الجنة علىّ أن أعيش ما تبقى من عمري وهذا يعني ربما خمسين أو ستين عاما إن لم يكن أكثر، مضافا إليها ملايين السنين في القبر حتى تقوم القيامة، بعدها أدخل الجنة وأنال قطعة شوكلاته، هل بمقدوري الصبر والانتظار كل هذا الوقت والشوكلاته أمامي في الدكان وبإمكاني أن أسرقها في أي لحظة.. لا لا لا.. لا أستطيع الانتظار! وعليّ أن أجد طريقة أجعل بها سرقتي حلالا صافيا مائة بالمائة، بل وينالني الثواب أيضا.. سمعت أن الجائع إذا سرق ليأكل فقط لا يناله إثم.. ولكنني لا أذكر أنني أو أي أحد من أفراد أسرتي عرف الشبع في يوم من الأيام.. وها هي أسرتي أقلعت عن تناول طعام العشاء، وقللت من حجم وجبة الغذاء، ووجبة الإفطار تم خسفها إلى النصف مذ بدأ الحصار، وأنا جائع منذ الصباح حتى صار بطني يقرصني، وعصافيره تزقزق، وأكاد أن أموت من الجوع.. وكم هي عدد المرات التي طالبت بها والدي أن يشتري لي قطعة شوكلاته بالبندق وكان يرفض طلبي وأحيانا يزجرني، في البداية اعتقدت أنه لا يريد شراءها لي ويختلق الأعذار الواهية، ولمّا ألححت عليه بالطلب وبكيت، قابل بكائي ببكاء مر.. نعم لقد بكى أبي حتى تبللت لحيته واحمرت عيناه، ليس ذلك الاحمرار الذي يصيب عيني شخص مصاب بالرمد، إنما كادتا أن تطفران بالدم.. هل هو أمر طبيعي أن رجلا كبير مثل أبي له عضلات مفتولة، وشارب مبروم من طرفيه، ولا يملك ثمن قطعة شوكلاتة بالبندق، أو حتى أي شوكلاتة بلا أي بندق.. لقد كانت كل دمعة من دمعاته سوطا على جلدي وسهما في قلبي.. يا رب ساعدني على السرقة.. فمثلي يجب أن يحمل السيف ويشهره في وجه الأغنياء.. وأنا يا الله ضعيف القلب ولا أحب القتل.. يا رب لا تعني على القتل وأعني على السرقة الحلال.. ما الذي يحدث لي؟ هذه أفكار إبليس! ربما يوجد في هذه الدنيا إبليسين، إبليس للحرام اللذيذ مثل سرقة الشوكلاته، وإبليس للحرام القبيح مثل القتل.. لا لا لا.. أبدا.. هو إبليس واحد بوجهين مثل البشر، من المؤكد أن وراء كل شرور الدنيا التي لا تحصى إبليس واحد فقط لا غير.. لعنة الله عليه، لن اسمع كلامك يا إبليس الكلب، ولن تنتصر علىّ.. ابتعد عني يا عدو الله.

لكن إبليس لم يبتعد وازداد قربا حتى شعر الصبي بدفء شفتيه تهمسان في أذنيه..
  أنا إبليس أقول لك عليك أن تسرق بالحرام مثل الآخرين، حتى لو كنت تصلي، لا يختلف حرام عن حرام إلا بمقدار ما له من ضرر، ولكل حرام سيئات.. ألا ترى بعينك الطالب يصلي ويغش في الامتحان؟ والموظف يأكل مالا حراما عندما يذهب إلى عمله متأخرا ويعود قبل الأوان ويصلي الظهر بساعتين بدل عشر دقائق..

أليس حرام أن يغش التاجر ويحتكر السلع وهو أيضا يقيم الصلاة مثلك؟ أليس حرام أن يراك جارك الشبعان جائعا رغم صلاته؟ ألا ترى حكاما ووزراء يحلفون الإيمان أمام شعوبهم ويحنثون بها ونراهم على شاشات التلفزيون من الركع السجود؟ وها أنت مع مليون ونصف من المسلمين محاصرين في قطاع غزة على مرأى ما يزيد عن مليار وربع مليار مسلم كلهم يؤدون الصلاة ولم يفعلوا لك شيئا، أليس هذا حراما؟ ولا تنس أن أمك ماتت مريضة ولم يجد أبوك لها ثمن الدواء، ماتت ونفسها تهفو منذ ولادتك إلى عدد قليل من حبات اللوز الأخضر! توكل على الله أيها الصبي الغر واذهب إلى الحرام بكل عزم وثبات ولا تأخذك بالسرقة لومة لائم!

نهض صاحب الدكان، ثم وقف عند الباب، وأخذ يرفع بنطلونه الواسع إلى ما فوق السرة، ولكن البنطلون يعود ويسحل ثانية إلى ما تحتها، وهو بنطلون معبأ بعجيزة كبيرة اكتمل تكوّرها، مترهلة وتتدلى إلى أسفل حتى يكاد ثقلها أن يمزق البنطلون، وكرش منفوخ شامخ وأملس يتقدم جسده الطويل الأسمر، كل هذه الأثقال محمولة على ساقين طويلتين قويتين، يعزز قوتهما فخذان غليظان كفخذي جمل.. فرح الصبي أيما فرح فهذا يعني أنه سوف يئين أوان السرقة بعد لحظات، أخيرا فرجت، وما هي إلا لحظات حتى ينقض على الدكان كالفهد ويصعد فوق الكرسي ويسرق قطعة شوكلاته.. لا. قطعتين.. بل العلبة كلها فالعاقل يحسب حساب القادم من الأيام، ومن أجل أن يشبع عليه أن يأكل منها عدة قطع، من حقه أن يتبحبح ولو إلى حين، لكنه تصور للحظة أن الرجل يمسك به وهو يسرق فيقطم رقبته، وطرق ذهنه مرة أخرى كلام مدرس التربية الدينية..

 السرقة حرام شرعا.. الإنسان الحر لا يسرق.

اختلط في ذهنه كلام المدرس مع دعاية الشوكلاته التي يشاهدها على شاشات التلفاز، وكذلك كلام زملاؤه عنها في المدرسة، ووصفهم لها يشعره أنها تفوق في حلاوتها ولذة طعمها قدرة البشر على التصور وتتجاوز في روعتها الخيال، فراح يتصور أن الشوكلاته شيء سقط من جنات السماء إلى أرجاء الأرض.. لم تسقط على الفقراء، رغم أنهم أغلبية سكان الدنيا ويكتوون بجحيمها، إنما سقطت على جنات الأرض بأغنيائها.. فها هو والده رجل كبير ولم يتذوقها في حياته ولو مرة واحدة، ولم يستطع امتلاك ثمن قطعة واحدة منها في يوم من الأيام.. وكلام إبليس يزن في أذنيه، شعر الصبي أن لا رأي له والرأي هو رأي إبليس، ومن الصعب عليه وهو الفقير الضعيف أن يكون له رأيا مثل الأغنياء والأقوياء.. وجد الصبي نفسه يقف وحيدا أمام منظومة الحرام الكوني الشامل، الحرام الممتد من الأزل إلى الأبد.. فهو يحس بكل خلاياه أنه أمام حرام شائع مخيم يمد ظلاله في كل اتجاه، ويضرب جذوره عميقة في النفوس.. على مدى حياته يشاهد الحرام يأخذ شرعية وجوده ويصبح أقوى من الحلال نفسه، وفهم من الدنيا أن الحلال يتراجع أمام سطوة الحرام الكلي المستمد قوته من أقوى اتفاق معقود بين الناس.. والذي هو اتفاق بلا اتفاق.

عاد صاحب الدكان إلى الداخل، بعد أن رفع رأسه وبصق بقوة، فاجتازت البصقة الجهة الأخرى من الشارع وكادت أن تصيب الصبي.

شعر الصبي بالارتياح، حمد الله وقد تملكه الندم على محاولته السرقة والتخطيط لها، ورنت في أذنيه كلمات المدرس، وتذكر في الوقت نفسه قصة سيدنا آدم عليه السلام حين عصى أمر الله وأكل التفاحة وطرد من الجنة عقابا له.. والصبي مقتنع تمام الاقتناع أن سيدنا آدم عليه السلام لم يسرق التفاحة، ولم تكن نفسه دنية كما صورها له إبليس الملعون المطرود من رحمة الله.. لكن الصبي بتفكيره الصبياني احتار لأن آدم عليه السلام عصى أمر الله حين كانت الجنة كلها أمامه بكل خيراتها وثمارها التي لا تخطر على بال أحد من البشر، ويستطيع أن يأكل منها ما يشاء ومتى يشاء، ورغم ذلك ضعف أمام التفاحة حين وسوس له إبليس.. واستعجب الصبي من نفسه حين قرر عدم السرقة، وهو الفقير الضعيف ولا يملك شيئا في هذه الدنيا، وفي تصوره أن الشوكلاته أزكى وألذ من التفاح، وانتابه شعور أنه انتصر على إبليس الملعون ولم يعد بحاجة إلى سرقة قطعة الشوكلاته بالبندق.. والصبي على يقين أنه اضعف من سيدنا آدم الذي ضعف في الجنة، وهو الذي لم يكن بحاجة إلى التفاحة ولم يكن فقيرا، فهل سيقوى هو ويصبر في جحيم الأرض؟ الصبي لا يخشى الطرد من هذا الجحيم، واصلا لا يوجد في الدنيا جحيم آخر يطرد إليه، لأنه يعيش في فقر أجحم من الجحيم وفقا لظنه.

الليل يزحف نحو منتصفه، على الصبي أن يذهب لينام، وإن كان الجائع لا ينام كما الخائف، ليصحو مبكرا ويذهب إلى المدرسة، مدرسته التي يكرهها لأنه يذهب إليها بلا أي مصروف، ينظر إلى الأولاد يشترون السندوتشات وقطع الحلوى، ويشربون البيبسي، يحدق إليهم ويتصنع اللامبالاة، رغم أن ريالته تسيل لما في أيديهم، وأمعاؤه تفور وتتقلص، يتلمظ ويمضغ الهواء وريقه متخيلا نفسه يأكل مثلهم.. في الفترة الأخيرة لم يكترث لدروسه رغم أنه من أوائل الطلاب ويحصل على أعلى الدرجات.

وقف صاحب الدكان عند الباب، أدار ظهره العريض وأغلق الباب الزجاجي للدكان وعلق عليه يافطة مكتوب عليها: سأعود بعد ربع ساعة.

توجه الصبي بسرعة نحو الباب وكسر زجاجه، وصعد فوق الكرسي وسرق علبة شوكلاته بكاملها، وفر هاربا، وبسبب الارتباك لم ينتبه إذا كانت محشوة بالبندق أم لا.. ومن حسن حظه لم يره أحد.

عاد الصبي إلى البيت، ما أن دخل جوّه الدار حتى أخفى العلبة في مكان محرز.. ثم توجه إلى غرفة والده ليتأكد أنه في سابع نومه، وأنه لم يلحظ قدومه المتأخر.. وجد الصبي والده ساقط عن السرير، ممد على البلاط.. وضع أذنه على صدره جهة القلب.. تأكد أنه مات.. أكيد أنها جلطة مفاجئة..

 كنت سأعطيك نصيبك مما سرقت يا أبي، مثلك مثل أي فقير تجوز عليه الصدقة، فالأقربون أولى بالمعروف، أنا اعرف أنك لا تأكل مال حرام يا أبي، لكنني كنت سأكذب عليك وأقول أنني وجدتها، أوهي هدية من المدرسة لتفوقي.. كنت أتمنى أن تذوق طعمها قبلي.. أكيد أنك ستذوقها في الجنة وتأكل منها الكثير إن هي أعجبتك، بعد أن تقوم القيامة.

غطى الصبي وجه والده بملاءة ودموعه تسيل، من عينيه تسيل ومن صدره تسيل، ولسانه يغمغم: مات أبي.. وهزمني إبليس.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى