الاثنين ٢٣ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم ناصر الريماوي

طفولة مزمنة 3

قطار المساء

 فقط تخلصي من تلك التميمة، عله يحظى بقسط من النوم... كبقية الأولاد.

ترد أمي في مرارة: سأفعل... غداً صباحاً.

ثم لا يأتي الصباح... هكذا أنتظر بلا طائل، فقط حين تعلو أصواتهم في صخب معتاد خلف النافذة، أستفيق مصحوباً برغبة عارمة في الخروج، هل أتى الصباح؟ أسأل من حولي، لا تترك مكانك... فالوقت يدنو من منتصف الظهيرة، صوت أمي يلفح وجهي بهواء جاف، أنصاع منكسرا لأتقي المزيد... قلت له ذات مساء إنها تضاعف وحشتي، أنا أغص بالكلمات... ليتها تتركني وشأني... لكنه، مضى... لم يتفوه بكلمة، هكذا لمرات عديدة على وقع نعليه حين تبتعدان، يجتاحني لفح حنين آخر... لو أن يديه تحملني إلى حيث يغيب عني شهوراً، لو أن أصابعه لا تأتي على أطراف خصلتي الاخيرة... حين تفلتُ مع آخر لمسة عابرة من يده.

الممرات موحلة، وضيقة، لكنني أحفظها عن ظهر قلب، وأحبها كونها الطريق الوحيدة، لدفء يديه... لم يأتِ ولم أصادف أحداً، ولم اشعر بشيء، نسيت الوقت كعادتي، فأنستني الطريق نفسي... كان يكرر السؤال في هدوء مفتعل، مستعيناً بأنفاس إضافية، وصوت ممزق... تذكر أرجوك... ماالذي رأيته للمرة الأخيرة؟ ومن تسبب في ذلك، هل كان احداً تعرفه؟

  قلت لك... لقد كان عصفوراً كبيراً... حط بمخلبيه على كتفي
  كيف عرفت؟ قلتَ ان المكان كان معتماً... وضيقاً؟
  كان له منقار مدبب ومعقوف... تسلق وجهي في بطء حتى أدرك عيني... ففر بهما على الفور !!

لم يكن لوالدي خيار آخر فينصاع مرغماً لأمر محدثه وهو يقول: عليه البقاء لفترة يصعب تحديدها الآن... لكن لا تخف... لن يطول به الأمر... سيشفى حتماً.

ظلام مستباح لذلك الصخب المألوف، هذه المرة تداخل مقيت لعجلات حديدية تطغى على حضورهم الدائم خلف بيوت الحي، يتراكض الجميع لملاقاة آبائهم قرب محطة الوصول، تصطك عند الوقوف يعقبها نفير موحش، يثير حساسية قديمة ولدت معي قبل هذا الظلام، فأنشب ما تبقى من أظافري في جدار الغرفة الوحيدة وانا أحاول ارتقاء النافذة...

وحده أبي يسلك الممرات الموحلة في طريق عودته، فالعجلات الحديدية تدوس الصبية... هكذا علمت عندما تدثرتُ بخزانة بيتنا الضيقة مع طائر لا يفارقها، يومها أخذتُ ابحث عن يد امي في الظلام، ظننتها قريبة، تركتُ مكاني فتعثرت، ثمة صوت يشبه الزجاج تناثر من حولي، تسمرتُ في مكان عثرتي ولم أتقدم أخذتُ أبحث عن أي شيء في ذلك الفراغ، كان متصلاً يسبح فيه ريش كثيف لطيور لم أرها، صرختُ في وجه الطائر الذي تسلق كتفي عنوةً: لمَ تحيطني أمي بكل هذا الفراغ...؟ لم يصل لسمعي سوى صوت جدتي، وهي تهرعُ نحوي، تردد عبارات لا أفهمها، حملتني بين يديها، أعادتني إلى حيث كنت أجلس، توسلتُ مراراً بعدها أن يخرجوني من هناك... فالمكان ضيق، ومعتم والطيور لا تأنس لوجودي...

  ليس ثمة طيور، انتَ هنا بيننا... ألا ترانا؟

في وقت لاحق كانت تهمس لأمي: ألمْ تتخلصي من تلك التميمة؟؟ ألا تعلمي أنها طيور الليل؟

  وإن يكن... لا أريد ان أفقد طفلاً آخراً.
  إذن دعيه يخرج... تخلصي من هاجس الموت، دعيه يرى النور، أو تخلصي من تلك التميمة.

لم تقوَ قدماي على حملي، كنت أنوي الوصول للنافذة، لم أشعر بهما، جذبني فراغ مظلم، كان جاثماً أمام خزانتي الضيقة، لم يكن قبل اليوم، سقطتُ دفعةً واحدة، لم أعد اذكر سوى صرخةً، ويداً حانيةً، ومقعداً ثابتاً... وبضعَ كلمات لأمي حفظتها قبل غيري، حين كنت أدعوها، تأتي برفقتها... تلك لِحَظٍّ عاثرٍ، وهذة لعين لم تصلي على النبي، ثم توقفها دمعة عابرة فنصمت معاً...

ألفتُ مقعدي بعد ذلك، وظلمة المكان... سكنتني النافذة بذلك الصخب المتقطع، شكوت لأبي عزوف والدتي عن سرد حكاياها، فتطوع لينوب عنها... حدثني لوقت قصير، ثم تذرع بالوقت والسفر ولم يأتِ على ذكر السأم... للمرة الاولى كان سمعي ينحاز لصخب جديد، لا يأتي من تلك النافذة، صراخ غامض لمولودٍ جديد، قالت عنه أمي انه يشبه أخي الأكبر، وضعَتهُ في حجري، تلمستُ وجهه، رغبة مني بإستعادة ملامح قديمة توشك أن تندثر.

دمى صغيرة من الطين تحبو فوق الرمل الجاف، يلهو بها على غير علم مني، كان يتناهى لسمعي حوارٌ خفيٌ يدور بينهما، لم يصل لمقعدي المتحرك بعجلاته الرخوة، فقط كان يدفع به ليضعني على أول الطريق، لم يحدثني عن أطفال يلعبون خلف بيوت الحي، ولا عن قطار يمر عند المساء، لكني طلبتُ منه ذلك، رجوته أن يأخذني مع بقية الصغار، لنلقى والدنا هناك، تزامن صوت العجلات الحديدية والنفير المتقطع مع هبوطنا ذلك المنحدر برفقة الجميع، دفع مقعدي بكلتا يديه، فأفلت منه وانا فوقه كان يلحق بي فزعاً... علا صراخه لم اكن اسمع سوى صوت النفير وتلك العجلات وهي تقترب، صراخ كثيف واصوات غريبة، ورفيف سرب من الطيور فر من ذلك المكان دفعة واحدة... ثم غابت الاصوات وحل هدوء أبدي...

 عاد يحاصرني بسؤاله، وانا أختنق بغصة مزمنة، راح يهزني ويصرخ في وجهي: تذكر أرجوك... ماالذي رأيته للمرة الأخيرة؟ ما الذي رأيته؟

 لقد كانت بقعاً حمراء... نعم كان لونها احمراً أتذكر جيداً... كان هناك ريش كثيف لطيور لم ارها تطايرت في الفضاء... لتحط هناك.

ثم غبتُ في موجة من النحيب وانا ارى للمرة الاولى تلك الغرفة الوردية وذلك الرجل الذي حاصرني طويلاً... برداء ابيض وقسمات حانيه، كان ابي أقرب مما ظننت، ألقيتُ بحملي بين يديه... ثم رحتُ في سبات عميق.

قطار المساء

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى