الأحد ٢٢ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم حسن أحمد عمر

صفحات من الذاكرة 2 .. ميت على أى حال

لم أشأ أن أطيل عليه فى الكلام حيث كان مرهقاً إلى أبعد الحدود رغم قوته الجسمانية وذكائه الحاد وعنفوان شبابه، كانت الكلمات تخرج من فمه كأنها دماء تنزف من جرح وكانت الحروف تتحشرج فى حلقه مثل حشرجة خروج النفس من الجسد وبلوغها الحلقوم، فقد طفح الكيل عنده وأصبح لا يطيق شيئاً حتى مجرد الكلام مع الأهل والأحبة والأصدقاء الذين دأب على ملاطفتهم والتحدث إليهم فى كل ما يخصه فى إسهاب شديد ودون أدنى مواربة .

لقد مرت سنوات سبعة على تخرجه من كلية العلوم حيث قضى فترة الخدمة العسكرية على أكمل وجه وكان يحدوه الأمل فى مستقبل مشرق وغد أفضل يحقق فيه أمله المنشود كشاب يريد أن يعيش الحياة وينهل من معينها الصافى، يريد أن يكون له شقة يتزوج فيها من إبنة الحلال التى طالما حلم بها وراودت خياله، ويريد أن تكون له وظيفة يعمل بها بجد واجتهاد ويعيش حياة حرة كريمة على دخلها ويريد أن يشعر بوجوده وكنهه كإنسان جاء إلى هذه الحياة بحلوها ومرها وفرحها وحزنها وصعبها وسهلها .

لمحت فى يده جواز سفره ومبلغاً من المال لم أعتد على رؤية مثله معه، دفعنى فضولى لكى أسأله عن نيته فاضطر للتحدث معى، كان قد جهز نفسه للرحيل ولكنه لا يدرى إلى أين فاستخرج جواز سفر وأقنع أباه وأمه برغبته فى السفر لتحقيق حلم حياته، فاضطروا لتصديقه من كثرة دموعه التى لا تنقطع وشروده الذى لا ينتهى فقد فشل عشرات المرات فى الحصول على وظيفة محترمة يبنى عليها مستقبل حياته وهو الذى عاش متفوقاً حتى تخرج من كلية العلوم بتقدير جيد جداً، ولكن كل الآذان صمت فلم تسمعه وكل العيون عميت فلم تره وكل الألسن خرست فلم تنصفه وكل القلوب جدبت فلم تعطف عليه، وكل الايادى الرحيمة بترت فلم تمتد له أى منها وكل الأرجل الحنونة خسفت فلم تسع له واحدة للوقوف إلى جواره فى محنته .

أضطر ابوه لبيع الجرن الخلفى من منزله بمبلغ لا بأس به، وقام بدفعه لأحد سماسرة الموت الذين يتاجرون بآلام الشباب وشقائهم وأحلامهم ورغباتهم، دفع تحويشة العمر وثمن الجرن الخلفى من منزل أبيه لذلك السمسار الذى كان قد اتفق معه ومع خمسين آخرين على تسفيرهم إلى ايطاليا عن طريق ليبيا وأوهمهم أن لديه خطة رهيبة لا تفسد أبداً وأنه قد سفر المئات من قبل وصاروا اليوم مليونيرات فى إيطاليا، وهكذا زين لهم ذلك الشيطان عملهم وأضل تفكيرهم فأصبحوا يرون جحيمه جنة وعذابه نعيماً ووعوده التى تبدو فى ظاهرها كأنها حقيقة أصبحوا يرونها الأمل والمخرج من مأزق الفقر والذل والعوز وضيق ذات اليد الذى يعيشه هذا الشباب الغض فى بداية حياته بعد أن نكس فى الشهادة العلمية التى أنفق عليها أهله دماء قلوبهم واصبحت تلك الشهادة مصدراً للحسرة والعذاب اليومى .

جلست معه محاولاً إقناعه بالرجوع عن قراره والإحجام عنه ولكن دون جدون فلقد اتخذ قراره ولم يبق غير التنفيذ ، حكيت له عن مئات الشباب الذين غرقوا فى البحر الأبيض المتوسط وكيف خدعهم هؤلاء السماسرة وحكيت له عن بعض السماسرة المجرمين الذين قتلوا بيدهم بعض الشباب وألقوا بالبعض الآخر فى عرض البحر ليصبح طعاماً للقروش، قصصت له الكثير عن الضحايا ضحايا وهم السفر الغير شرعى إلى أوروبا، ولكنه لم يسمعنى ولم يرنى ولم يهتم بوجهة نظرى فقد اتخذ القرار، ذهبت إلى أبويه وتكلمت معهما، عرفت أنهما لا حيلة لهما معه وأنهما أضطرا لإرضائه لأنه كل يوم يهددهم بقتل نفسه بالسم أو أى وسيلة، خافوا عليه فباعوا جرن المنزل ( وهو الجزء الفضاء الخلفى من منزلهم ) للجيران وأعطوه الفلوس ليسافر بها،
قلت لهم ليته يفتح بهذا المبلغ مشروعاً صغيراً حتى ولو كشك بيبع فيه بعض الأشياء سوف يمشى الحال وتتحسن الظروف فحكوا لى عن قصته منذ أربع سنوات مع مشروع مشابه وكيف أن الروتين والإجراءات الحكومية والضرائب والتأمينات أجبرته على التراجع وعدم المضى وذاق وقتها مرارة الفشل وأشرف على الإنتحار .

كانا يتحدثان معى وعيونهما تقطر دماً لا دمعاً حتى أبكيانى معهما، وشعرت بالعجز لأول مرة فى حياتى وكرهت الحياة تساءلت ولا زلت أتساءل اين يذهب هذا الشاب بعد قصة طويلة من التعليم والنجاح والتفوق ؟ وماذا يفعل أبواه المسكينان الفقيران بعد أن يريا فلذة كبدهما يضيع أمامهما هذا الضياع وقد شارف عمره على الثلاثين وهو لا يملك قرشاً ولا يعرف أن يطعم نفسه من عرقه ؟

كانت الجملة الوحيدة التى قالها لى حين كنت أحاول أقناعه بالعدول عن السفر هى ( أنا ميت على أى حال ) ...

لم يمض أكثر من عشرة ايام حتى رجع مع عشرات من اقرانه جثثاً هامدة بعد أن غرق بهم مركب الموت والخداع كما غرق بمئات قبلهم، وكانت جنازته مهيبة تجمدت فيها الدموع فى العيون وكبتت الكلمات فى الصدور، ولم يترك لأبويه وأهل قريته غير حزن وحسرة وقلوب حزينة على فراقه وفراق أقرانه ضحايا الغدر والظلم والفقر .


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى