الجمعة ٢٧ حزيران (يونيو) ٢٠٠٨
بقلم محمد سمير عبد السلام

القوة الخلاقة للتمرد في كتابة هنري ميلر

في دراسة هنري ميلر عن رامبو، والتي قد ترجمها للعربية الشاعر سعدي يوسف بعنوان رامبو وزمن القتلة – هيئة قصور الثقافة المصرية – تذوب الحدود بين دراسة الأدب والتأويل الإبداعي للتاريخ، واللحظة الحضارية، والسيرة الشخصية بوصفها نصا في حالة صيرورة لا يمكن اكتمالها أبدا.

إن كلا من التاريخ والثقافة والنص علامات مرنة، قيد التشكل في وعي، ولاوعي الناقد، بل في وجوده الواقعي الذي يقع في إغواء النص.

تحتفي كتابة ميلر – إذا – بالحرية في الوقت الذي ترتكز فيه على بؤس الجحيم، وعبثيته التي صارت نقطة بداية للإحساس بالوجود في العالم.

و مثلما يلج العصر الحاضر مملكة الجحيم بين النص، وما بعد النص عند هنري ميلر، فإن الجحيم النصي عند رامبو يمتد من خلال محاكاة الواقع نفسه لعمليات التكرار، والاستبدال في الكتابة، فقد تقاطعت كتابة ميلر الإبداعية – النقدية مع سيرة رامبو ونصه، والواقع الذي صار تشبيها انتشاريا لرموز الشر التي انفلتت دون كابح من الكتابة، وتاريخها الخاص؛ فنستطيع الآن أن نسمع صوت ميلر في تبشيره بالرعب الهائل، وتواصل حالة التشرذم أو الانقسام الذاتي التي رصدها منذ نهاية القرن التاسع عشر عند دوستوفسكي ونيتشه، ورامبو، فضلا عن ذلك فقد تجاوزت كتابة ميلر الحدود بين النقد، والإبداع، والتأويل الثقافي. هذه الكتابة التي نجد لها صورا مختلفة عند نيتشه، وهيدجر، وباشلار، وبارت ثم جاك دريدا، وهارولد بلوم.

الكتابة النقدية هنا هي نوع من الحدوث الفريد، يتجاوز عمليات الإدراك، والتحديد، والقولبة النصية، إذ تظل تداعياته مختلطة بالواقع الثقافي، وتجدد مآسي التمرد الشعري، والاحتراق المتكرر في الجحيم النصي، أو الحضاري.
ونستطيع أن نميز أهم ملامح هذه الكتابة الإبداعية في بعض النقاط؛

أولا: حساسية تاريخية، ونصية:

يعيد هنري ميلر اكتشاف صور رامبو، وأخيلته، وتناقضاته النصية من خلال التحول الحضاري المعاصر باتجاه مملكة الشر، التي تقوم على الانقسام الذري المستمر، والمتواصل للقوة البشرية، فقد انتقل من جحيم رامبو إلى جحيم واقعي، وثقافي نقف على أبوابه بقوة تتجاوز آلهة العالم القديم. لقد امتصت قوة الانقسام في وعي ولا وعي هنري ميلر كل الإشارات التاريخية، والسيرية، والأدبية في بروزها الإبداعي الفريد في المشهد، وفي هذا الانقسام الشرير المتواصل تزول الحدود بين الإنتاجية الإبداعية، وصيرورة التأويل التاريخي، والأحلام المرتبطة بتجدد الموت في اللاوعي.

ثانيا: التحول الخيالي في أنا الناقد:

تتحول سمات مثل اليأس، والتمرد، والرفض في حياة رامبو، إلى طاقات متجددة في عالم ميلر الداخلي، ويحاول من خلالها أن يكمل حياة رامبو من خلال الكتابة التداخلية بين الناقد، وطاقات المبدع المتحولة فيه بقوة، ويعترف ميلر بوجود تناظرات بين حياته، ومسار رامبو في اتجاهين يكمل أحدهما الآخر، ويزدوج فيهما النص بالتطور الروحي؛ هما:

الأول: كتابة مسار رامبو الآخر، الذي لم يحدث، ويفترضه ميلر، حيث يؤكد أن الموت لو لم يأت لرامبو في هذا الموعد، لعاش حياة تأملية صوفية، هذه الحياة التي تتفق مع توجه ميلر الفكري نفسه، وكأنه يعيد كتابة رامبو من خلال تطور طاقات الرفض والانقسام بداخله، ونزوعها إلى تأكيد السخرية الممزوجة بصمت عبثي.

الثاني: معايشة ميلر للمصير الفعلي لرامبو، فقد افترض أنه مات في نفس عمره، وأنه صار نموذجا للإخفاق، واليأس، والقذف.

لقد صار فعل القراءة هنا أدائيا، ومقاوما للنزعة الشمولية باتجاه ديناميكية التخيل، واستبداله للنماذج الأصلية، وكأنه يتجاوز حدث الانسحاق من خلال دائرة التمرد التي ولدت الانسحاق نفسه في المبدع، والناقد.

هل يستشرف ميلر حياة افتراضية تتجاوز الجحيم؟

أعتقد أنه يفعل ذلك، فالتمرد عنده يملك قوة خلاقة تتجاوز الشخص، بل يمكنها أن تبعثه في الآخر.

ثالثا: دلالات ثقافية متنوعة:

قرأ ميلر تناقض رامبو بين التمرد، والاستسلام التأملي للموت من خلال الإشارات الثقافية المتنوعة لكريشنا، والشيطان في قصة الخلق، وصورة الهيدرا في التراث اليوناني، فحالة الانفصال عند كريشنا تتفق مع تأملية رامبو، واستسلامه لغريزة الموت كما يرى ميلر، ويرتبط كريشنا في التراث الجمعي بالاستسلام الأخير للعنة، وغموضه، وقوته الروحية، وتمرده الممزوج باللا عنف، ويتفق مع الشيطان في قبوله السري لقوة الموت في كبريائه، أما الهيدرا، وهي وحش ذو تسعة رؤوس لا يمكن قتله، فهي القوة السلبية التي يرصدها ميلر، وقد تركت رامبو في حالة تحد، وعجز.

إن ميلر يعيد إبداع حالة السلب عن طريق تجددها الثقافي، وتنوعها، وانتشارها كطاقة خلاقة للعقاب، والجحيم، وتجدد الوعي بالهلاك في أكثر من ثقافة، وتتجدد إشارات ميلر الثقافية عن طريق التحامها الأول بطاقة النبذ الكامنة في رامبو مثلما التحمت بعالمه الداخلي من قبل.

رابعا: استباق وتأجيل:

يرى ميلر أن جحيم رامبو لم يتعمق بالقدر اللازم فشوي في المدخل، ومن ثم فقد انتصر من خلال الإخفاق، ثم يؤكد أن الروح المتعطشة بداخله هي التي انتصرت.
لقد استبق ميلر الموت، والجحيم، والحياة، ورامبو نفسه، لكي يظل كل شيء في حالة تأجيل متضمنة في لذة الاحتراق بوصفها موتا أو وجودا شبحيا، أو وهجا للغياب حين يشكل الهوية النصية الزائفة بوصفها أصلا خفيا للتكوين.

خامسا: رامبو الآخر:

على طول الكتاب يرصد ميلر جحيم الانقسام عند رامبو، وارتباطه بحالة الانفجار الحضاري باتجاه الشر، ثم يقوم بعملية توحد سري بمستقبل رامبو في هذه الكتابة التي تطمح أن تبعث تمرده، ورعبه من جديد.

وتظل حالة الانسحاق الإنساني في وعي ميلر مجددة للعبث، والتمرد، والعقاب ليس كحل نهائي، وإنما كطاقة واقعية، ونصية معا، يقول عن الإنسان المعاصر:

" إن الرعب الذي يعرفه يتجاوز كل رعب عرفه أهل العصور السابقة؛ ذلك لأنه يعيش في عالم غير حقيقي، محاطا بالأشباح، وليست لديه حتى إمكانات الفرح التي كانت لعبيد العالم القديم ". ( راجع – ميلر – رامبو وزمن القتلة – ترجمة سعدي يوسف – هيئة قصور الثقافة بمصر ص 100 ).

لقد انفتحت الهوية على الفراغ، وانتشر رامبو في الآخر، وصار الجحيم ذريا لا يمكن السيطرة عليه، وذلك لأنه اتخذ في وعي ميلر بعدا تاريخيا حضاريا، وانفجر خارج النص، وكتابة الناقد معا.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى