الجمعة ٤ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
(العلم): فضاء الدلالة وطرائق السرد
بقلم يسري عبد الله

جدارية لواقع مأزوم

يتسم المشروع الروائي للكاتب (فتحي إمبابي) بفرادته الخاصة، وطروحاته المتعددة، غير أن ثمة قواسم مشتركة تبدو لافتة حين نشير إلى نصوص مثل: (العرس، نهر السماء، مراعي القتل، أقنعة الصحراء، شرف الله)، إن إمبابي الذي اختار ليبيا مكاناً للهويات المتصارعة في روايته الأولى (العرس) الصادرة في طبعتها الأولى عام 1980، يعود إلى فضائه الأول في روايته الجديدة (العلم)، فيرصد لنا التحولات السياسية/الثقافية التي عصفت بمجتمعاتنا العربية، سواء أتخذت شكلاً قبلياً ذا طابع بدوي، أم كانت حاوية إهاباً حضرياً، جاعلاً من أسرة (عمر بوزوي) البؤرة المركزية التي تتفرع عنها الأحداث، وتدور حولها الحكايات داخل الرواية. إذن فثمة إحالة إلى النص الأول (العرس)، ربما لن يستشعرها سوى الراصد الدقيق لمشروع إمبابي.

يمثل العنوان بنية دالة في الرواية، فهو ليس مجرد عتبة مهمة من عتبات تأويل النص فحسب، بل إنه أيضاً يكشف عن فضاءات دلالية متنوعة بداخل هذا العمل. فالعلم في المعني القاموسي أو المعجمي تعني العلامة وسيد القوم، والجبل، والراية والجمع أعلام. ونلحظ أن ثمة إشارات نصية مبثوثة داخل الرواية تحيلنا إلى أغاني العلم الشائعة في الثقافة البدوية الليبية، والتي تُعني بالتشبيب بالمحبوب والتغزل به، وهذا ما نلمحه مثلاً في المقطع التالي والذي يشير إلى بدايات العشق بين (ونيس) و(سالمين): "استجمع شجاعته وأسعفته ذاكرته الهاربة. فألقى لها بكلمة تحمل كل المعاني التي يرغب أن ينقلها لها. همس قائلاً وهي تعبره مطرقة الرأس: يا علم". إذن فالعلم تحيل في مدلولها النصي الأول إلى منحى رومانتيكي يحتفي بالغزل العذري، وحالات الوجد بين العاشقين. ثمة مدلول ثانٍ يشير إليه العنوان أيضاً، ويتعلق بإحدى الشخصيات المركزية في الرواية (حميدة بن مفتاح بوزوي) هذا المناضل اليساري الذي وقف شامخاً كالعلم بعد إحراقه مقر الاتحاد الاشتراكي في ليبيا، ثم أُعدم وعُلق على المشنقة. ثمة مدلول ثالث يحيل إليه العنوان أيضاً، ويتعلق بالأسطورة الشعبية الخاصة بذلك الفارس العربي المسمى (علم)، والذي أحب الملكة البربرية (طلطلة) حباً عذرياً،ثم هام على وجهه في الصحراء. فالعنوان إذن يأخذ في الرواية مناحي ومدلولات مختلفة (رومانتيكي، واقعي، أسطوري)، ورغم حركية الدال (العلم)، غير أن ثمة دلالة تتسم بالعموم، وتمثل قاسماً مشتركاً بين مناحيه المختلفة، وتتعلق بفكرة الإباء والشموخ والاستمساك بالجذور. ربما اعتمد الكاتب في عنوانه أيضاً مايعرف ببلاغة الحذف فبدلاً من (أغاني العلم) صارت الرواية تحمل عنوان (العلم) لتسبح المفردة في فضاءات دلالية مختلفة لا تجعلنا نقرأ النص وفق رؤية سابقة التجهيز.

تتشكل الرواية من أربعة أجزاء، يتلوها (فصول للموتى) تبدأ تحديداً من الفصل الحادي والعشرين وحتى الفصل الرابع والعشرين الذي يختتم به الكاتب نصه. والملاحظ أن الكاتب لم يجعل من فصوله الأخيرة جزءاً خامساً، فيما يعد استكمالاً للشكل ذاته الذي صنعه طيلة الرواية، وإنما عنونها بلافتة (فصول للموتى) في إشارة دالة على حالة الموت والموات التي أصابت الشخوص المركزيين بداخل النص، ولذا فالفصول الأخيرة تتصدرها شخوص ثلاثة (سالمين، الدكتور رفعت بيومي، حميدة)، ولكل شخصية من هؤلاء مأساة تؤول إليها حياتها، وفشل يظلل علاقتها بالعالم، فسالمين لم تستطع الزواج بمن تحب، واضطرت تحت وطأة العرف للزواج برجل اغتصبها شرعاً بتوصيف الكاتب: "غداً تغتصب سالمين شرعاً". والدكتور رفعت بيومي اليساري المصري الذي ضاقت عليه الأرض بما رحبت، فطن إلى أن ثقافة القمع والتلصص تظل هي الحاكمة في الأنظمة العربية المختلفة، ليلازمه شعور دائم بالأسى، وإحساس عارم بأنه تخلى عن (حميدة) حين أراد اللجوء إلى مصر. وصولاً إلى (حميدة بوزوي) المناضل الذي آلت حياته إلى الإعدام شنقاً والذي تكشف مذكراته المكتوبة بخط اليد عن فضح للأقنعة الزائفة وكشف للمسكوت عنه في مجتمعاتنا.

يصدر الكاتب كل جزء من الأجزاء الأربعة الأولى ببيت شعري من أغاني العلم، والتي تعد هنا جزءاً من البنية السردية للرواية، فالبيت الشعري الذي يصدر به الجزء الأول مثلاً يحوي إشارة إلى فحوى هذا الجزء ومراده:

كذاب يا منام الليل

تجيب في عرب طال يأسهم

وإذا كانت ليبيا بتفصيلاتها المتنوعة، وأماكنها المختلفة (مدينة القبة- درنة- الجبل الأخضر- طرابلس) مكاناً مركزياً في الرواية، فإن الارتحال إلى (القاهرة) أحياناً يبدو كاشفاً عن عوالم جديدة، تمنح الرواية أبعاداً أكثر عمقاً، حيث تصير (القاهرة) بمثابة المحرك لما يجري، وكأن فكرة المركز/المتن تثبت حضورها الفاعل في الرواية، على اعتبار أنها قادرة على استقطاب الأطراف، وذلك عبر علاقة جدلية قائمة بينهما: "عندما علم عمر بأنه ضمن لائحة المطلوب القبض عليهم، انتقل من اليونان إلى لندن حتى تنجلي الأمور عن وجهها الحقيقي، مؤكداً إشاعة مرضه بالكبد، وأنه في انتظار إجراء عملية جراحية. اعتزم أمراً فكر فيه كثيراً من قبل. فرحل إلى القاهرة حيث نزل ضيفاً على أحد أعضاء مجلس الشعب من الاقطاعيين السابقين. وطوال أسبوعين دُعي إلى سهرات المجتمع المصري، أثرياء ورجال اعمال جدد وأصحاب توكيلات أجنبية، سياسيون ونواب بمجلس الشعب، وضباط كبار ووزراء وفنانات مشهورات بالسينما والتليفزيون من الدرجة الأولى والثانية. رجال عمليون لعصر جديد".

يمثل (ونيس) الشخصية المركزية والمسرود عنه الرئيسي بداخل الرواية، وهو موزع بين عالمين: مجتمع قبلي وعشائري، يحميه العرف، وقانون الجنرالات، حيث ثمة ذهنية ذات مرجعيات تقليدية تتحكم في زاوية النظر إلى العالم، وعالم آخر منفتح (نتاج مباشر لدراسته الطب في ألمانيا)، دال على ذهنية حداثية تحوي وعياً واستنارة مغايرين. إن الشخصية الروائية هنا (ونيس) تعد علامة على مجتمع مشوه وممزق في الآن نفسه، حيث تعلوه قشرة الحداثة الغالبة عليه، والتي تخفي تحتها طبيعة صلدة ومغايرة عما فوقها. ولذا فالرواية لم تكن معنية برصد هذا التناقض الكامن في البنية الذهنية للمجتمع الليبي فحسب، ولكنها كانت معنية أيضاً بالإحالة إلى هذه الذهنية العربية المسكونة بتناقضات متعددة، والمسئولة عن الواقع العربي التائه والمرتبك في آن.

في (العلم) ثمة وعي بجدلية العلاقة بين الماضي والحاضر، والعلائق المتشابكة بين ما كان وما هو قائم، فالمدينة التي ارتحل إليها (ونيس) ليعمل طبيباً في مستشفاها العام (مدينة درنة) بها بعض رائحة أندلسية (تشبه غرناطة)، تصل الماضي بالحاضر، بمجده الغابر وانكساره الذي ران عليه؛ و(حانوت) الشاب (علي) يشير إلى حوانيت تجار بغداد أيام العباسيين، بجوارييها، وبالفعل لم يكن (علي) سوى نخاس جديد في مجتمع تسيطر عليه العلاقات السرية نتيجة الكبت الكامن بداخله، والادعاءات التي تظلل قشرته. لنصبح أمام مراجعة لواقع تتكسر فيه الأحلام تحت أقدام الصفقات المريبة والقوادين والساسة.

تنهض الرواية على آلية التوالد الحكائي، حيث تتناسل الحكايات من بعضها البعض وتتفرع، ولذا فالأجزاء الأربعة تأتي متداخلة، وإن كانت ثمة حكايات مركزية بداخلها مثل: (عودة أسرة بوزوي إلى مدينة القبة- العالم الجديد لونيس واستلامه العمل في المستشفى- قمع الانقلاب الذس كان سيتم في القاعدة الشرقية للبلاد- رحيل عمر إلى القاهرة- توهج العلاقة العاطفية بين ونيس وسالمين- تنامي العلاقة المحرمة بين ونيس وثريا زوجة أخيه عمر- إعدام حميدة شنقاً).

و تتعدد الخطابات بداخل الرواية، حيث ثمة خطاب يصنعه ما يسمى بالسارد الرئيسي والذي يقبض على زمام الحكي في النص، وينهض حوله عدد من الخطابات الممثلة للشخوص في الرواية (ونيس- ثريا- حميدة- عمر- رفعت بيومي- سالمين...)، وقد يلتحم أحياناً خطاب السارد الرئيسي مع خطاب الشخصية المركزية (ونيس) ليشكلا معاً رؤية العالم بداخل النص، والتي يهيمن عليها الاحساس العارم بالمفارقة: "هو الآن عاشق رومانتيكي في بلاد البادية، معلق بين صحراء البوادي التي عاش شبابها في القديم على معاشرة الحمير بينما بناتها ملفوفات في جرد الإخفاء ومعازل التنك، وبين مدن الحضر خيث تلاشت الحمير وحلت محلها أحدث موديلات السيارات السبور.. تواً صار فيه تطور، تواً يركبن السيارات، ينزلن غادي مصر بيش ينكحن عاهرات القاهرة والأسكندرية".

وبعد.. في (العلم) نحن أمام نص روائي ثري، متعدد الطبقات، يمتزج فيه السياسي بالفني، حيث يصبح للسياسة حضور واعد في فضاء الرواية، غير أنه الحضور المسكون بالاشتراطات الجمالية التي تظلل هذا النص وتكمن فيه.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى