الخميس ٣ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم محمد حسان بن حسني الطيان

العلامة الدكتور شاكر الفحام.. في ذمة الله

ما أَســرَعَ الأَيّامَ في طَيِّــنــا
تَمضي عَلينا ثُمَّ تَمضي بِنا
في كُلَّ يَــومٍ أَمَلٌ قَد نــأى
مَـرامُهُ عَن أَجَـلٍ قَد دَنـا
كَم مِن حَبيبٍ هانَ مِن فَقدِهِ
ما كُنتُ أَن أَحسَبَهُ هَيَّــنـا
أَنفَقتُ دَمعَ العَينِ مِن بَعدِه
وَقَــلَّ دَمـعُ العَينِ أَن يُخزَنا
كُنــتُ أُوَقِّـــيـهِ فَأَسكَنتُه
بَعدَ اللَيانِ المَنزِلَ الأَخشَنا
يا أَرضُ ناشَدتُكِ أَن تَحفَظي
تِلكَ الوُجوهَ الغُرَّ وَالأَعيُنا
يا ذُلَّ ما عِنـدَكِ مِن أَوجُـهٍ
كُــنَّ كِـراماً أَبَـداً عِندَنــا

تخطفت منا يد المنون أمس، سيدا من سادات اللغة، وفحلا من فحول البيان، وقامة مديدة من قامات العلم والمعرفة.
إنه العلامة الدكتور شاكر الفحام رحمه الله، رئيس مجمع اللغة العربية بدمشق، وأحد فرسان العربية المجلين، عاش لها..ورفع لواءها.. ومات دونها.

وقد أحدثت وفاته ثلمة لا تسد وثغرة لا تردم، كما كانت حياته شعلة وضاءة لا تخبو، وجذوة متوقدة لا تنطفئ، إذ ملأ الدنيا وشغل الناس ردحا من الدهر كاد أن يكون قرنا من الزمن، فقد مات عن سبعة وثمانين عاما، قضاها أو أكثرها في تعلم العربية وتعليمها، ومحبتها وتحبيبها، والذود عنها والتبشير بها، ورفع رايتها في كل محفل ومجمع، والكتابة بأبلغ أساليبها في أرقى المجلات، والمحاضرة فيها وعنها في أعرق الجامعات، حتى بلغ بها أعلى المراتب، وتسنم في خدمتها أعظم المناصب.

ولد أستاذنا الفحام في مدينة حمص عام ١٩٢٢م ونشأ في مساجدها ومعاهدها ومدارسها طالبا للعلم محبا للمعرفة عاشقا للعربية لغة القرآن الكريم، تعلم قوعدها، وحذق نحوها وصرفها، وتروى من آدابها وفنونها على أيدي مشايخ حمص وعلمائها.

ثم رحل إلى القاهرة ليتابع تحصيله الجامعي والعالي حيث التقى أئمة اللغة والأدب ، من أمثال عميد الأدب العربي الأستاذ الدكتور طه حسين، ورئيس المجمع المصري السابق الأستاذ الدكتور شوقي ضيف والأستاذ السقا وغيرهم من أساطين اللغة والأدب.

بيد أن أعظم من لقيه هناك وصحبه ولزمه، ونهل منه وعل، حتى لقد عرف به هو شيخ العربية وعلمها الأكبر وحارسها الأمين أبو فهر محمود محمد شاكر رحمه الله وأجزل مثوبته، ففي بيته تابع الدكتور شاكر رحلته في معرفة العربية وآدابها، وفي مكتبته نهل من علومها وفنونها، وفي مجلسه عرف رجالاتها وأعلامها، من أمثال الأستاذ الدكتور عبد الله الطيب رئيس المجمع السوداني، وعلامة الجزيرة الشيخ حمد الجاسر، والعلامة الأستاذ أحمد راتب النفاخ شيخ العربية في بلاد الشام، والأستاذ الدكتور ناصر الدين الأسد شيخ العرية في الأردن، والأستاذ الدكتور يعقوب الغنيم وزير التربية في الكويت، وشقيقه الأستاذ الدكتور عبد الله الغنيم وزير التربية في الكويت أيضا، ومدير مركز الدراسات والبحوث الكويتية، والأستاذ الدكتور إبراهيم شبوح علامة تونس، والأستاذ الدكتور عبد الله بنشريفة علامة المغرب....وغيرهم وغيرهم كثير.

وعاد بعد ذلك إلى دمشق ليكون أحد أساتذة قسم اللغة العربية في جامعتها، ثم ليكون رئيسا لجامعتها، فوزيرا للتربية، ووزيرا للتعليم العالي ، وسفيرا لسورية في الجزائر، وعضوا في مجلس الشعب... وما زال يتقلب في أعلى المناصب والمراتب حتى استقالها ورأى في العلم والمعرفة خير بديل، فكان نائبا لرئيس مجمع اللغة العربية بدمشق، ثم رئيسا له إلى أن لقي وجه ربه، وشغل منصب المدير العام لهيئة الموسوعة العربية الكبرى، وكان عضوا في مجمع القاهرة وكثير من المجامع الأخرى، واتحاد المجامع العربية، وكثير من الهيئات والمجالس واللجان المعنية بالعربية وآدابها وتاريخها وفنونها.

وخلف من الآثار والمصنفات والمقالات ما يشهد بعلو كعبه في لغة العرب، ومكنته من علومها، ودقة تقصيه في آدابها، وسعة اطلاعه على فنونها وأسرارها، وجزالة أسلوبه وسلاسته في كتابتها والتعبير بها.

من ذلك كتابه الرائع عن الفرزدق الشاعر الفحل المعروف، وعن بشار بن برد، الشاعر المجدد المشهور، ومحاضراته عن الأدب الأندلسي ومختاراته منه ، وقد حظيت بحضورها ودراستها أيام دراستي في قسم اللغة العربية بجامعة دمشق، ومن ذلك مقالاته الماتعة عن السرقسطي وكتابه الدلائل في غريب الحديث، ومقدماته الرائعة لكثير من الكتب، وقد حظيت وصاحبيَّ د. محمد مراياتي ود. يحيى مير علم بثلاث منها، أولاها لأسباب حدوث الحروف لابن سينا، والأخريان لكتابي علم التعمية واستخراج المعمى عند العرب. إلى غير ذلك مما لا تتسع له هذه العجالة.

ثم توج ذلك كله بنيله جائزة الملك فيصل العالمية في الدراسات الأدبية لعام ١٩٨٨م.

على أن أعظم ما اتسم به أستاذنا الفحام في تقديري، إنما هو التشجيع وبناء الرجال، إذ أخذ على عاتقه مد يد العون لكل باحث أو طالب علم يقصده، فتراه يرشده ويعلمه، ويشد من أزره، وينفخ فيه روح البحث والتقصي، ويمضي به إلى بحور العلم والفهم.

يبني الرجال وغيره يبني القرى
شتان بين مزارعٍ ورجال

وقد كانت له يد علي لا أنساها ما حييت، أحسن بها عليّ حين منعني الناس، وأنصفني حين ظلمني الناس، وحباني وقربني حين هجرني الناس!. وكان ذلك إبّان منقلبي كسيرا حسيرا من جامعة السوربون بفرنسة عام ١٩٨٦، إثر مقابلة لئيمة جافية مع واحد من أعتى أعداء لغتنا وديننا وهو الدكتور محمد أراكون رئيس قسم الدراسات العليا في تلك الجامعة آنذاك. فتلقفني أستاذنا الفحام _برّد الله مضجعه ونفّس عنه كربه_ بعناية الأب الشفوق، ومودة المعلم الرفيق، وإصرار المربي النصوح، لأجد في كنفه كل الرعاية والحدب، وليشرف على الأطروحة التي نلت بها درجة الدكتوراة، تلك الأطروحة لتي صنعتها على عينه، فحظيت منه بالاهتمام والتقدير، والمتابعة والتقويم، على كثرة مشاغله، وعظم المهام الملقاة على عاتقه، ووفرة الورّاد الذين يردون حوضه ، فلا يجدون إلا أرحب صدر، وأوسع علم ، وأعظم معلم.

ولهذا تراني أردد فيه دائما بيت المتنبي الخالد:

وَقَيَّدتُ نَفسي في ذَراكَ مَحَبَّة ً
وَمَن وَجَدَ الإِحسانَ قَيداً تَقَيَّدا

رحمك الله يا أستاذنا، وغفر لك، وأعلى في الجنان مقامك، وجعل ما قدمت من عمل لخدمة لغة كتابه الكريم زلفى لك عنده يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضرا.

وإنا لله وإنا إليه راجعون.

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى