الثلاثاء ٨ تموز (يوليو) ٢٠٠٨

هذا قبري به دمتُ حيّا

بقلم: راوية جرجورة بربارة

لشدّة ما ألِفَ الطريق لم يعد يشمخ بناظريه صوبَ الأشجار الباسقةِ المترامية على جبال الكرمل، ولم تعد رائحةُ الخليج تداعب شعرات أنفه فيفتح لها رئتيه... المللُ اليومي كَتَم كلَّ رائحةٍ، واجترارُ الرُكّابِ لأخبار الساعة وتعليقاتهم السياسية ونقاشاتهم التي لا تنتهي عند محطَّةٍ إلاّ لتبدأ عند التي تليها، أرغمه على شراء سدّاداتٍ قطنيةٍ يضعها في أذنيه كلما دخل السيارةَ شخصٌ تبدو سمات الثرثرة على وجهِهِ.

أليوم قذف بسدّاداته عبر النافذة، ورفع صوتَ المذياعِ الذي كان كثيرا ما يلعنُهُ في سرِّهِ لما ينقله من نشرات إخبارية لا يستطيعُ تجنّب سماعها، فعدد ركّابه مرهون في كثيرٍ من الأحيان بالوضع السياسي، بالإضرابات وبالمظاهرات وبالوضع الأمني على طول خط سفرِهِ من البلد إلى المدن الساحلية... وأحيانًا أقصى من ذلك إلى ما بعد، بعد الساحلية.

اليومَ.. تصدحُ فيروز تغني "لعروس المدائن" فتُلهِبُ الأفئدةَ والنقاشَ، وتتعالى التصريحات من المحللين عبر المذياع ومن الركّابِ الذين لا يُجيدون إلاّ السفر الدائم كإطارات سيارته، وإلاّ الحديث الفارغ كتلك الدواليب التي تحتك بالإسفلت..

اقترح على "المؤرخين وعلماء الآثار" الذين ركبوا اليوم سيارته أنْ يقلّهم مباشرة إلى جلسة الكنيست لطرح معتقداتهم ودراساتهم.. تضاحكوا من أنفسهم وامتعضوا من هيكلٍ ثالثٍ لن يُبنى إلاّ على رفات هياكل بشرية وتاريخية وحجرية.. وأصدر شيخ المسافرين فتواه؛ بأنّ القيامةَ قريبةٌ، ويوم الحشر سوف يُعاقَبُ الكافرون..

أودعهم أبو صخر المحطة الأخيرة.. نزل من السيارة وجلس مع أصدقائه السائقين منتظرًا رُكّابًا للعودة ووضع خنصره في أذنه وهزّه هزّاتٍ متتالية وهيّأ طبلته لجولةٍ ميدانيةٍ جديدة..

لم يَدْرِ كيف اختصر الصمتُ الطريقَ من حيفا إلى عكا، فلا صوتَ في طريق العودةِ إلاّ صوت المذياع، والآذان منهمكة بالتقاط آخر التفاصيل والأحداث.. عرَّجَ صَوْبَ المحطة الأخيرة قبل الانطلاق نحو البلد، قرّرَ الترويحَ عن نفسه قليلاً، سار نحو جامع الجزّار ولم يطأه منذ سنين، دخله رأى المزولة في باحَتِهِ، خبط الأرض بقدميْهِ خِفْيَةً ليتأكدَّ بأنّه لا آثار لهياكل تحت ترابه.. بَهَرَهُ البناءُ وسأل نفسه للمرّة الأولى في حياته كيف بنى الجزّارُ جامعًا وأقامَ جُدر الصلاة للخالق فوق رفات البشر؟ لم يتوضّأ ولم يُصَلِّ، أسرع الخطى نحو الخارج ودخل الأنفاق تحت الأرضِ.. زار آثار عكا القديمة التي تختنق رطوبة وظلمةً تحت أقدام عكا النابضة.. صدعَتْهُ الأسئلة تتذاكى في زمن الغباء.. فإذا كانت الآثارُ تحت كلِّ حجرٍ قائمٍ، هل علينا أنْ نهدمَ لنعيد ترميم التاريخ؟!

حمل الأسئلة وانطلق صوب البلد يقلّ بعض الركاب.. لكن الازدحام غير المتوقَّعِ قرب تل نابليون.. كثَّف التساؤلات.. وسيارات الشرطة تحيط مكانًا قرب سكة الحديد كانت قد بدأت فيه الحفرياتُ قبل عدة أيام.. ومجموعةٌ من لابسي الأسود يهزّون سوالفهم ويصيحون في وجه رجال الشرطة يريدون وقد اقتحام المكان عنوةً، اتّصل أبو صخر عبر اللاسلكي بزملائه السائقين فأخبروه بأنّه قد وُجدت أثارٌ وجماجم يؤكّد أولئك المتسربلون بالسواد وبالسوالف أنّها جماجم أجدادهم...

كان يومًا عصيبًا، فللمرة الأولى يرى أبو صخر الأشياء على غير عادتها.. وكانت ليلةً لم يرف له فيها جفن.. كلّما حاوَلَ أتته الرؤيا.. إسراء على قبرٍ أبيه وتعرُّجٌّ نحو السماء وصلاة على الميت.. فقام يستغفر ربّه ويشدّ الرحال نحو يوم جديد...

مَسَحَ الندى عن زجاج سيارته.. لم يبحث عن ركّابٍ يقلّهم في سفرته.. فَتَحَ المذياع فوجده مستغرقًا في أخبار البارحة.. وهناك خلف التل في عكا وجد الشرطة قد أغلقت المكان بقماشٍ أخضرَ مرتفعٍ حاصَرَ العلماء الباحثين عن أثرٍ، والهراوات تمتدُّ صوب كلّ من يجرؤ على التقدّم..

كم تمنّى لحظتئذٍ أن يرى عظْمةً من تلك الجماجم التي تفوح منها روائح الزمن الماضي، لكنّه أعاد رأسه داخل النّافذة وتابع خطّ سيره اليومي يلتقط الرّكّاب المعلِّقين المحللين.

وقرر أنْ يهرب من عبثهم الفكري وأنْ يشمخ بناظريه المشتاقيْن صوب جبال الكرمل كما كان يحلو له أنْ يفعل..لكنّ رنين الهاتف النّقّال قطع عليه لحظةَ استعادة الذّات، وصوتٌ صارخٌ أخبره بأنّ جماعة من النّاس تتزاحم حول قبر والده بين كروم الزّيتون...فرك عينيه، هزّ خنصره في أذنه، استفسر فسمع الحديث واضحا.
أنزل الركّاب وقفل عائدا صوب كروم الزيتون هناك حيث دَفَن والده حسب وصيّته...

أخذ يربط بين الرؤيا والرؤية، "لعلّ عمّه الذي نزح وانقطعت أخباره قد عاد ثانية، لم يره لأنّ نزوح النّكبة كان قبل مولده، لكنّه طالما سمع عنه من والده، وقد تواعدا أن يُدفنا في كَرْمِ العائلة..لا بدّ أنّه عمّه والعائلةَ، قد أتى صوب الكرْم مشتاقًا...

وصلت السّيّارة تلهث..لم يُسكِت هديرها..انطلق نحو الملتفين حول قبر والده..لا يشبه أحد فيهم صورة عمّه المعلّقة في مخيّلته..تفرّس في وجوههم مستغربا، كيف تركوا الجماجم في عكا وأتوا يتحلّقون حول القبر يهزّون سوالفهم ورؤوسهم ويتمتمون؟

وكمَن رأى شبحا مخيفا انتفضوا في وجهه صارخين، ناهرين إيّاه لأنّه قطع خلوتهم بوجوده قرب المكان، وطلبوا منه ألاّ يقضي حاجته قرب مقدّساتهم وأن يبتعد حتى إنهاء المراسيم...

صرخ في وجوههم:

 عن أيّة مراسيم تتحدّثون؟

فردّ عليه أحدهم موبّخًا:

 مراسيم التّعبّد.

 التّعبُّد؟

 نعم، إنّه كما مذكور في الكتب..إنّه قبر الراب..

 هيّا انصرفوا من هنا

 سوف نتّصل بالشّرطة

  فلتتّصلوا! إنّه قبر أبي، وهذه الأرض ملكي، وعندي بلد بأكملها تشهد على أقوالي..

أخرج المتعبّد هاتفه النّقّال، ففعل أبو صخر بالمثل واتّصل بأهل البلد وبالأصدقاء أنْ يسرعوا قبل أنْ يُصادَر قبر أبيه..

واتّصل بصديقه النّقّاش وطلب منه أن يحفر شاهدا يكتب عليه بالعربيّة:

" هذا قبري به دمتُ حيّا"...........

بقلم: راوية جرجورة بربارة

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى