الجمعة ١١ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم منى العبدلي

قلوب لا يسكنها الغبار

تبدو المدينة وهي تلتحف الغبار منذ أيام، باهتة، مصفرة، تعلوها ملامح شــاحبة كعجوز تتثاءب بفم فارغ حتى كأنها ستقلب كل شيء رأسا على عقب...

هناك على الشرفة المشرعة وذرات غبار تتسلل خفية ، كنت أمارس هوايتي التي اعتدتها مؤخرا بعد انتقالي للمسكن الجديد المطل على مياه الخليج ونسيمه المنعش. في غير هذا الوقت من العام الشمس تتوارى خلف حجاب سميك من الغبار المتراكم في السماء، والأفق البعيد قد اختفى خيطه الواهن الذي يفصله عن مياه البحر الساكنة حتى لم يعد هناك فرق بين البحر والسماء .

في الأسفل كانت أسوار الواجهة البحرية الصدئة بشجيراتها المتناثرة وأعمدة إنارتها تبدي رباطة جأش أمام تلك الرمال التي تحاصرها . تأملت بعمق هذه اللوحة السريالية الباهتة بلونها الوحيد الــمصفر خالية من أي حياة. لم يكن ثمة ما يغري باستمرار المشاهدة حين هممت بإغلاق نافذتي لولا غريب استوقفني وجوده في مثل هذا الوقت والغبار يتراكم في كل مكان. فمن يتجرأ على مواجهته ؟

ما الذي أتى به والمكان خالٍ تماما ؟ فلا شيء يغري بالخروج والحياة شبة منعدمة ؟ وزحف الرمال لا يتوقف منذ أيام ؟

بدا غير مهتم لذلك واختار لجلوسه مكانا جعلني أستطيع تمييز شيء من ملامحه ، نظراته منكبيه ، ظهره ، حتى تلك الشعيرات المتناثرة على وجهه ، كان واضحا أنه في أوائل خريف عمره ، تعلو وجهه سماحة وقورة دافئة .

فكرت فيما ينوى فعله . ومن ذاك الذي ينتظر حضوره ؟
هل ضرب موعدا لحبيبة ربما لن تأتي ؟ أو لصديق قد يخلف موعده ؟
ما الشيء الهام الذي لا يمكن تأجيله حتى ينقشع ركام الغبار ؟
بدأت أشفق عليه وتمنيت زوال هذه الغيوم المغبرة سريعا، لكن الغبار لم يكن يهتم بما كنت أهتم به !
أي سلطة تخفي تلك النظرات الحائرة وذاك الوجه الدافئ ليستبقيني رغم الحرقة التي أحسها في عيني ؟
أدرت وجهي للداخل قليلا . تنفست عميقا وأنا مغمضة العينين، وسريعا عدت أراقبه وكأني أخشى فوات متعة بدأت أشعر بها بعد أن كنت على وشك السخرية من جدوى متابعته وهذا الجنون الذي بدا ينمو سريعا بداخلي. على كل لن أخالف هذه المتعة أبدا .

هل يمكن أن يكون لقاء الغرباء صدفة ؟ تساءلت، فيما كنت أفكر في هذا المشهد أمامي، وشعوري بتشابك خفي بدأ ينمو بيني وبين ذاك الغريب.

هل يمكن أن تنشأ روابط خفية بين الغرباء؟ هل يشعر هو بها كما بدأت أنا أشعر بها؟
أيمكن أن يكون لديه نفس الإحساس ؟ نفس الارتباك أمام آخر نراه لأول مرة في حياتنا ؟
ألم يشعر بعد بتلك العينين اللتين تتلصصان عليه وتنتهكان خصوصيته؟ لا أدري !

في تلك اللحظة كنت أكثر إيمانا بفكرة التواصل الخفي بين الغرباء الذي لا يمكن تفسيره على أيه حال. وكان شعوري ذاك يتأكد وأنا أستشعر تلك الموجة الحارة المنبعثة من جسده وتوهمت أنني أرى نبضه من تحت ثيابه. كان ساكنا لا يبدو عليه الملل ، حتما هو يتقن فن الانتظار ! أتطلع إليه ولا يتطلع إلي وعيناه سابحتان في اللامنتهى .
فيم كان يفكر ؟ وفيم كنت أفكر وأنا لا اكف عن عبثي هذا ؟
ماذا لو كنت أنظر إلى قدري الآن ؟ وكنت أنت الذي ينتظر هناك؟
بدأت ذاكرتي تصرخ بك وتحرضني على استخراجك من الماضي هل كنت أفتش فيه عنك؟ فأنا أنثى لا تتقن فن النسيان !

غرقت في أفكاري الخاصة بعيدا عن الغريب وقريبا منك، ولكم أحببت دفء وجهك فيه.
هل أخبرتك يوما كم أحب دفء وجهك؟
كم أعشق ارتباك الشوق في صوتك؟
صوتك.... يا لصوتك ، وحضورك في هذه اللحظة بالذات وعلى غفلة من الزمن ، غبت معك ونسيت الغريب . لم أعد هنا على الأرض ولا كنت هناك في السماء .

أفقت من شرودي على إثر فكرة مجنونة ..!ـ بوركت الأفكار المجنونة التي تقتحم رؤوسنا دون إذن مسبق ـ قررت أن أذهب هناك حيث الغريب الممعن في صمته. لم أفكر كثيرا فيما يمكن أن يحدث ولم آبه... وخرجت مسرعة
حين عدت كان كل شيء قد بدا لي مختلفا !


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى