الاثنين ٢٨ تموز (يوليو) ٢٠٠٨
بقلم لؤي الشامي

الزرافة الراحلة

كان مصراً على مشاهدة الزرافة ....... وكأن حديقة الحيوان بفدادينها المترامية الأطراف وأقفاصها المفتوحة والمغلقة قد اختزلت في ذهنه الطفولي المتوقد في الزرافة، لم يعر أي من الاقفاص والمراتع التى مررنا بها في مداخل الحديقة وممراتها في الساعة الاولى انتباها، وكأنه في مهمة رسمية لا يصح أن يشغل نفسه الفتية بشيئ سوى الزرافة......ولما تراخت خطوات المجموعة التى تتراوح أعمارهم المباركة فيما بين السبعين والرابعة، بعد زيارة مملة بالتأكيد بالنسبة له لبيت الزواحف، تجرأ وأعلن في إصرار جاد لا يثنيه شئ وقد أوثق قبضته على كفي وقال في لهجة آمرة يشوبها الرجاء ويغلفها عشمه الأكيد في عدم رفض عمه لؤي لطلبه " يا للا يا عمو علشان نروح نشوف الزرافة " وسرت معه مدعيا أني أعرف طريق بيتها، متظاهراً أني أقوده، مخفياً أنه يسوقنى.

ببساطة لا تناسب جدية الموقف في نفس إياد ألقيت السؤال على عامل توسمت فيه معرفة العنوان ..... وبنفس البساطة التى لا تناسب فداحة الخطب هذه المرة جاءنا الخبر .......... الزرافة ماتت ........... لم أشأ بل لعلي بصراحة لم أجرؤ على النظر في عيني إياد في هذه اللحظة، ذلك أني عددت نفسي مشاركا في هذه الصدمة بتكاسلى عن تلبيه نداءه منذ دخلنا الحديقة قبل ساعة، وأنى أرجأت تلبية رغبة كل الأطفال في تأكيل الحيوانات والتقاط الصور لهم وهم يفعلون إلى أن نصل إلى الزرافة، ولسوء حظى أصررت على الزرافة والزرافة فقط ........ بعد صاعقة الخبر حاولت تبسيط المسألة بشغله بكلام فارغ آخر لست مقتنعاً به أصلاً.

رثيت لخياله الطفولي مرة وأشفقت على برائته مرات، لم أسأله أو أبويه عن المدة التى كان يحلم فيها برؤية الزرافة، فهي بالتأكيد لا تقاس بأيامنا بل تقاس بأيام الطفولة وأحاسيسها الغضة وأحلامها الرقراقة ..... لم أحاول أن أتحسس ألمه خشية أن أفتح عليه باباً لا يسد من السخط على الدنيا والظروف والأحوال، فالوقت أمامه متسع عندما يكبر لكل هذا وغيره كثير، وشاغلته بكلمة قالها العامل بعد ما دهشنا بخبره بأنهم بصدد شراء أو استقدام أخرى جديدة ولكنى خشيت أن أعد إيادا بشئ .

أكملنا سيرنا في طرقات الحديقة روادا لبقية المجموعة، لا أعرف ماذا كان هم إياد في هذه الإثناء وفيم جال فكره، أما أنا فكنت مهتما بتدبير بديل له ولمن معنا من أطفال لموضوع التصوير أثناء إطعام حيوان ما ، ولم يخرجنى من أسر هذه الفكرة إلا صوت قارئ القرآن مجلجلاً من مكبرات الصوت من مسجد الحديقة، فقد آذن وقت الجمعة بالإقتراب ...... وإذا بإياد يشد يدى متسائلاً في بديهية لا مثيل لها : "يا عمو هم مشغلين قرآن علشان الزرافة ماتت" .......... بعد أن أنفجرت ضاحكاً أدركت بعضاً من حجم الألم وفداحة المصاب في نفسه المحبة للحياة والأحياء.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى