الأربعاء ٦ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم خليل الجيزاوي

حلم النهار

دفعتني بقبضة يدها التي لا تزال تحتفظ ببعض قوتها قائلة:

 قم يا كسول! الشمس علت الأشجار والسطوح... وجدك في الانتظار!

متثائبا أنهض، أفرك عيني، أطرد النعاس بقايا الأحلام العالقة بالذاكرة، حين أصل باحة البيت، يصافحني وجهها الذي به مسحة من جمال لا يزال، برغم رؤيتك خصلات شعرها البيضاء التي تبص عليك ترى نشاطاً كبيراً وحركة دائبة وهى تجهز وتعد وترص وتستبعد المكسور أو الذي به احمرار زائد، فهذا هو طعامنا في الفطور، حين استدارت قاصدة بعض أمورها فوجئت بي، تهلل وجهها بالترحاب، علا ضحكها رغم القسوة التي تبدو عليها وهى تقول:

 أهلا.... أهلا بأعز الحبايب!
 أسرع.... الوقت تأخر وهم ينتظرون!

بطول الطريق كانت جدتى تخب في جلبابها الأسود الباهت بخطوات واسعة تأكل الطريق، تحمل ما جهزته طوال ليلة الخميس ونشرته في غرفة الخبيز، حتى بات يتلألأ في ضوء القمر، ذلك الذي كان يغازلني من شيش الشباك المكسور ومع آذان الفجر استيقظت على كركبة الصاجات والمعارك المعتادة بين القطط والكلاب أمام الباب الكبير المغلق الذي نفتحه مع شروق الشمس.

كنت ألهث خلفها، مُمسكا بيدي اليسرى طرف جلبابها وباليمنى أقبض على حقيبتي المدرسية، بطول الطريق تحكى عنهم، وأنهم منذ البارحة ينتظرون هذه الزيارة الأسبوعية، فتحوا الأبواب وكنسوا الشارع ورشوه بالماء وسقوا ظمأ الأشجار وفرشوا البسط وأشعلوا راكية النار ووضعوا كنكة الشاي وتحلقوا حولها في انتظار قدومنا نحمل لهم الكعك والقرص وبلح العجوة والعنب والبرتقال، مُندهشا أسأل جدتي:

 يعنى لا يوجد عندهم أكل!

 لا، لا خير ربنا كثير يعطيهم من نعمه ويأكلون من رزقه، لكن هذه زيارتنا الأسبوعية، وجدك يحب أن يأكل من يدي.....!

وكنت كلما أقترب من بيوتهم، أنكمش في مريلة المدرسة!

وأحتضن جدتي خائفاً ومرعوباً، تضمني إليها قائلة:

لا، لا تخف! من يحفظ القرآن لا يخف!

إن القرآن يحفظ صاحبه وينجيه!

تدلف هي في طريقها المعتاد، وتتمتم بقراءاتها، تبسمل وتحوقل، ثم تتلو ما تيسر لها، تقول وأردد صامتاً:

 السلام عليكم!

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته.

تقرأ بصوت عال وهى تقبض على يدي، تقطع قراءتها لتشير بإصبعها:

 هذا بيت عمك!

تقرأ سورة الصمدية والفتح والناس والفلق، ثم تجد صوتها يتغير وتعلوه الحشرجة، فترى فيض العيون خيوطاً، وهى تقول بحنان بالغ ورقة واضحة:

 وهذا بيت جدك!

تنظر يميناً ويساراً، تلقى السلام على النساء الزائرات والفقيرات السائلات، تضع يديها في سيالتها وتعطى لهم دون أن تنظر ماذا تعطى؟

تضع حملها المزين بالبشكير الكبير الذي لا يخرج من الدولاب المكسور إلا لهذه الزيارة، يهرول إليها الشيخ عبد العزيز والشيخ مصطفي والشيخ محمد، تفرش لهم الحصيرة أمام باب جدي، ثم تدفعني للجلوس بجوارهم قائلة: اجلس يا شيخ، واقرأ معهم سورة يس.

إن جدك يحبها ويحب أن يسعها منك. إن سورة يس لها فضل عظيم.

كنت أجلس القرفصاء على حافة الحصيرة، أردد آيات السورة التي حفظتها خوفاً من فلكة الشيخ على نوفل، وبين الآية والآية، كنت أفتش عن عدة الشاي وراكية النار أتلمس رؤية أشياء جدي التي أعرفها جيدا، فلا أجدها ثم أسرع في القراءة، حتى ألحق بالمشايخ حين تضبطني جدتي منشغلا في هذا البحث.

تنتهي هي من توزيع الحصص على المشايخ، ثم تقف أمامي شبه ضاحكة قائلة:

 افتح حجرك يا شيخ حماده وخذ نصيبك لقد أحسنت القراءة اليوم!

في طريقي للمدرسة كنت أسأل جدتي:

 أين جدي وأصحابه؟

تجيب وهى تنظر في السماء العالية:

 لما تأخرنا عليهم دخلوا يناموا كانوا سهرانين!

 يا جدتي: أنا أحب جدى قوى! ونفسى أشوفه! أحضنه وأبوسه!

 الخميس الجاى، نصحي بدرى شويه، علشان نلحقهم قبل ما يدخلوا يناموا!

في بيت جدي، وبالطباشيرة المدرسية، كنت أضع خطوطاً وعلامات على الحائط وبجوار السرير، وأظل أحسب كم يوماً تبقى على يوم الخميس!

نعم كنت أنام عند جدتي لأمي، مكان جدي حتى يعود من سفره الطويل، هكذا قالت أمي وهى تجمع ملابسي، وأكد أبي وهو يوصيني بكتابة الواجب والمذاكرة، ثم يحتضنني طويلا قائلا:

 كن رجلا في غياب جدك!

وحين قلت لأبى:

 إنني أحب جدتي، لكن حبي لك أشد!

استدار بسرعة وهو يمسح عينيه بطرف إصبعه قائلا:

 سأراك كثيرا وجدتك سوف تأتى بك لزيارتنا!

هل انتظرت طويلا رؤية جدي؟

مع الخط السادس أو العلامة السابعة لا أذكر، وبعد صلاة العشاء دب النشاط في أطراف جدتي وكثرت الحركة بين غرفة جدتي والباحة وغرفة الخبيز، وتعودت على سماع كركبة الحلل والصاجات، بين الحين والآخر ولابد أن أسمع من على سرير جدي المعارك الدامية بين القطط والكلاب ثم ألوذ بالبطانية والدفء!

حين لسعني الشوق لرؤية جدي صحوت مع الفجر، قمت نشيطاً، أحث جدتي على السرعة حتى أشاهد جدي وأحضنه وأنام على رجله ولو قليلا كأيام زمان!

بطول الطريق لا أذكر هل كنت أسير بجوار جدتي أم أهرول أمامها؟

أنفلت سريعاً، أدخل الشارع النظيف والمرشوش بالماء، تدفعني اللهفة، يلسعني الشوق لرؤية جدي، حتى إذا وصلت إلى باب بيت جدي، وجدته مقفولا، فبكيت أمام جدتي ورحت أشد جلبابها الأسود قائلا:

 نفسي أشوف جدي، جدي وحشني قوى!

وكالعادة جلست مع المشايخ عبد العزيز ومصطفي ومحمد على الحصيرة! لكنني لا أعرف لماذا رحت أقرأ بصوت عال جداً يعلو على صوت المشايخ! ووجدتني أقرأ ثم أنظر ناحية باب جدي، أرفع صوتي عالياً، حتى يسمعني أو يكلمني، أو يمد يده فيلمس شعري ثم ينزل بها على كتفي ويجذبني إليه برفق، ويضمني لحضنه، أو يناديني ويخصني بقطعة من الحلوى والتي لا تخلو سيالة جلبابه الأبيض منها أبداً.

حين انتهى توزيع الحصص على المشايخ في الزيارة الأسبوعية قمت بوضع نصيبي في حجر الشيخ مصطفي قائلا:

 يا عم الشيخ لما تشوف جدي سلم عليه، قل له إنه وحشني قوى!

على غير العادة، صحبتني جدتي لزيارة أبى، بعد عودتي من المدرسة وتناول الغذاء وقبل المذاكرة، كانت تمسك بيدي، ورحت أقفز أمامها وخلفها ثم أسير جوارها صامتاً؛ لأنها لم تتحدث معنى كعادتها وتضحك أو تحكى عن جدي ومواقفه وحب الناس له ومكانته الكبيرة ولم تتحدث عن أحلامها لي وأنها تعدني خليفة جدي الكبير، حين اختارتني من بين إخوتي للعيش معها.

كانت تسير وهى تزم شفتيها، مقطبة الجبين، وكنت ألمحها بين الحين والحين، تكلم نفسها عن السفر، الرحيل والجد، والعم ثم تعود للصمت ثانياً!

حين وصلت إلى بيتنا وجدته وقد امتلأ بالأقارب، عرفت أن الطبيب زار أبى وأعطاه بعض الأدوية، على قدر ما فرحت بعودتي البيت، لكنى تألمت من أجله وسألت الله له الشفاء!

بقيت ألعب مع إخوتي على الترعة الكبيرة، بجوار الجميزة وتحت ضوء القمر، حتى نادتني أمي وهى تقبل جدتي مودعة فلم أعترض إذا تذكرت قول أبى كن رجلا، فحاولت ألا أغضبه.

مضى يومان أو ثلاثة، وبينما كنت جالساً في المدرسة حتى حضر خالي وأخذني قبل الفسحة، وفي الطريق أخبرني دامعاً أن أبى سافر إلى جدي كم بكيت... وبكيت على هذا السفر الطويل!!!

سفر جدي وعمى!

وكنت أسأل نفسي هل أقدر على تحمل سفر أبى أيضاً؟

مع الخميس الأول لزيارة أبى وجدت الشارع أكثر نظافة، ولا يوجد أثر للتراب ازدادت الأشجار طولا وعرضاً، امتلأ الشارع عن آخره بالزائرين، لكنني في النهاية عرفت الطريق إلى حصيرة المشايخ ثم رفعت صوتي بقراءة سورة يس التي يحبها جدي ويحب أن يسمعها أبى من الشيخ محمد رفعت، ذلك الذي كان يحلو له أن يناديه بـ "كروان الإذاعة"، حين لسعني الشوق وتلهفت لرؤية أبى، لم أنتظر موعد الزيارة الأسبوعية أصحو مُبكراً وعلى طريق المدرسة أشاهد تلك البيوت الواطئة والهادئة أدخل الشارع الواسع أردد ما حفظته من قراءة جدتي، أرفع صوتي دون خوف قائلا:

 السلام عليكم ورحمة الله وبركاته دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون ونحن .......

ثم أجد نفسي أجلس القرفصاء أمام بيت جدي وأبى أقرأ سورة يس وفيض الدموع يسيل شوقاً ولهفة، للقاء الأحبة جدي وعمى وأبى، حتى أجدني أحس بقشعريرة تسرى في جسدي، فقد كانت يد أبى التي أعرفها جيداً، تلمس شعري برفق وتنزل على كتفي، فيجذبني إليه بحنان، ثم يضمني في حضنه وأجد نفسي أذوب... أذوب في هذا الحضن الدافئ، فأمسح دمعي وأقبل يديه قائلا:

 عد ... عد يا أبى ولا تسافر ثانية!


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى