الاثنين ١٨ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم حسن المير أحمد

قصيدة لا تموت

خبر كان أم كابوس قتل اليمام الراقد آمناً في أعشاشه•• كابوس يكمل دائرة حصار الروح بأسلاك تنزّ دماً رشفته من أجساد العابرين الهاربين إلى المشتهى•• الصابرين على حظّ يسمى لعنة تكشر دائماً عن حقدها الأزلي على أجنحة السمو!!

خبر لا يشبه كوابيسي المخيفة، ولا معاناتي من ضربة الجلاد فوق جروحي المفتوحة تحت عين شمس حارقة•• تلقيت الفجيعة، متمنياً لو أن الكذب ينتصر في مثل هذا اليوم وتخطئ كل وسائل الإعلام في نقل النبأ!! لكن أمنيتي تلاشت وتفجرت آهات نشيجي الصامت•• فقد ترك محمود درويش (الشعر) وحيداً، ورحل بعيداً حاملاً وطنه في (حقيبة سفر) بعد أن غفا إغفاءته الأخيرة مسجى فوق (سرير الغريبة)•• ونحن ما زلنا نتسول الأحلام على أبواب الذاكرة!!

لم أكن قادراً على تجميع الكلمات لكي أشهد على نفسي بأني واحد من سيئي الحظ الذين عاصروا موت القامة الأعلى في الشعر العربي الحديث•• لكن دمعة سبقت قطرة الحبر على الصفحة البيضاء، فتدفقت هذي السطور (تولول) ملتاعة كناي حزين تشق نغماته ثوب المدى ويرجع صداه من تخوم الجبال الغافية ليعلن نهاية قصة عشق عتيقة دامت حتى النفس الأخير!

خبر الرحيل المفاجئ، جاءنا كصاعقة شتائية غاضبة مزّقت فرحتنا السرية المخبأة بوجود آخر المبدعين بيننا في عالم يسخر من حبنا وحزننا وخوفنا وأحلامنا وخيباتنا ويستهزئ بالكلمات وعطف الأمهات وزقزقة العصافير في سويعات العشية•

درويش مات•• فقد تعب القلب الكبير من حرقة الهموم والأحزان والعشق المكابر، ذلك القلب الذي فتحته مباضع الأطباء لكنهم لم يعرفوا ماذا يخبئ•• ولم يدركوا ما ضم من حب ومعرفة ووحي غامض ككل القصائد•

درويش مات•• ومن قرأ قصيدته (لاعب النرد) التي كتبها قبل شهر ونيف يشعر بأنه كان يدرك ما ينتظره ويرى قلب شاعرنا العظيم ينوس من بين أبيات القصيدة•• منهكاً مطالباً باستراحة أخيرة لمحارب لم يلق أسلحته علي مر السنين•• يقول:

أنا لاعب النرد،

أربح حيناً، وأخسر حيناً

أنا مثلكم

وأقل قليلاً••

ولدت إلى جانب البئر

والشجرات الثلاث الوحيدات كالراهبات

ولدت بلا زفة وبلا قابلة

وسميت باسمي مصادفة

وانتميت إلى عائلة

مصادفة،

وورثت ملامحها والصفات

وأمراضها:

أولاً: خللاً في شرايينها

وضغط دم مرتفع

ثانياً: خجلاً في مخاطبة الأم والأب

والجدة ـ الشجرة

ثالثاً: أملاً في الشفاء من الأنفلونزا

بفنجان بابونج ساخن

رابعاً: كسلاً في الحديث عن الظبي والقبرة

خامساً: مللاً في ليالي الشتاء

سادساً: فشلاً فادحاً في الغناء••

ويختم القصيدة (الوداع) قائلاً:

ومن حسن حظي أني أنام وحيداً

فأصغي إلى جسدي

وأصدق موهبتي في اكتشاف الألم

وأنادي الطبيب، قبيل الوفاة، بعشر دقائق

عشر دقائق تكفي لأحيا مصادفة

وأخيب ظن العدم

من أنا لأخيّب ظن العدم؟

من أنا؟ من أنا؟

درويش مات•• ولم تمت القصيدة (بعينيها تقاتل)•• تعطينا فرصة للبوح بأسرار وأفكار تعذبنا بلا خوف من الجلاد وآثار الحصار••

محمود•• كنت رفيقي المرشد في كل حالاتي•• وستبقى ما دمت أحيا أتنفس الكلمات•• فأنت منارة الشعر•• ما دامت القراءة سيدة المعرفة•• وها أنا أنثر قطرات دموعي في الفضاء بديلاً عن الورود لعلها تعانق روحك الحاضرة دائماً بيننا!!•


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى