الجمعة ٢٢ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
بقلم البشير الأزمي

أوراق ميت

الخميس 23 ديسمبر....

فتحت عيني بصعوبة الألمُ يسري في جسدي بياضُ الغرفة أضحى مخيفاً كلُّ شيءٍ حولي أبيض الأسِرَّةُ لونُ الجدران لباسُ الممرضات أثرُ وخزات الحقن بادية على ساعدي لم أعد أتحمل وخزاتِها أحلمُ بمغادرة المستشفى والعودة إلى البيت تخيلتُ زملائي في الفصل الدراسي قد يرِنُّ الجرس بعد لحظات ليعلن بداية فترة الاستراحة الصباحية سيخرجون متسابقين فرحين سَيَعْدون ويصرخون سيعودون متعبين إلى حجرات الدراسة وأنا في هذا الجُحْر فوق هذا السرير مُسَيَّجٌ بقائمة من الممنوعات والمحرمات..

الخميس 31 ديسمبر....

الكل يستعد للاحتفال بانتهاء السنة الميلادية واستقبالِ أخرى جديدة لَسْعَةُ البردِ تقرص مواطن جسمي وتترك آثاراً في الأماكن التي تجاهلتها وخزاتُ الإبر غَيَّرَت الممرضةُ الأغطيةَ بأخرى جديدة ناصعة البياض وغَيَّرَتْ منامتي بأخرى بيضاء لونُ الجدران أبيض أواني الطعام بيضاء ستارُ النافذة أبيض لونُ جسمي اقترب من البياض أرى الكفنَ الأبيضَ يحومُ حولي.. أنا في حجرة.. أنا في قبر.. حجرتي كفنٌ أبيض..

الجمعة فاتح يناير....

الموت يخيم على المستشفى سُكُونٌ لا جلبةَ ولا ضجيجَ لم يأت الطبيب المشرف على معالجتي هذا الصباح الممرضاتُ أغلبهن نائماتٍ في القاعة المجاورة لقاعة الاستعجالات تأخر أبي وأمي عن موعد الزيارة المعهود أحاول النهوض من السرير الذي اعتدت أن أقول عنه سريري أصبح مِلْكي هذا السرير لأني لا أعرف متى أغادره أصبح سريري بيتي غرفتي قبري عليه أنام إن استطعت النوم فيه أقضي حاجياتي البيولوجية بمساعدة الممرضة موثق إليه بأنابيب تساعدني على التنفس أنابيب تساعدني على التغذية الاصطناعية اليوم لم تساعدني الممرضة على قضاء حاجتي في الإناء الأبيض فحولت السرير الأبيض إلى لون أقرب إلى الصفرة انتشرت رائحة كريهة في قبري أخفيت رأسي تحت الغطاء الأبيض وبكيت...

السبت 2 يناير.....

صراخٌ وبكاءٌ وعويلٌ في الغرفة المجاورة حركة غير عادية في مثل هذا الوقت من الصباح طفل في مثل عمري فارق الحياة أمس كانت حالته الصحية قد تحسنت هذا ما سجله تقرير الطبيب المعالج سرت إشاعة وإشاعات خطأ وأخطاء ممرضة وممرضات وقيل لوالديه انتهى أجله قضاء وقدر وانتهى كل شيء أغلقت الممرضة نوافذ غرفتي أغلقت باب غرفتي زنزانتي قبري أنا محاصر في غرفتي في زنزانتي في سريري في قبري.....

الاثنين 15 مارس......

بدأت الشمس تطل علي من النافذة تغازلني وتغيب خلف السحب الرمادية طائر أسود يُحَوِّمُ على غير هدى حاولَتْ الممرضةُ أن تصده عن الدخول إلى الغرفة الزنزانة القبر أغلفت النافذة لا زال الطائر الأسود يحوم في الساحة الأطفال في ساحة المدرسة يحومون حول النافورة والطائر الأسود يحوم حول الشجرة الباسقة أمامي تدهورت حالتي الصحية هذا الأسبوع أجد صعوبة في التنفس قدماي لا تسعفاني على الوقوف دقات قلبي ازدادت سرعة عما كانت عليه أمس لا قدرة لي على تناول الطعام لا قدرة لي على تناول الدواء مؤشر دقات القلب انخفض صفير آلة مراقبة دقات القلب ارتفع الممرضات تسرعن مذعورات الأطفال في الساحة يمرحون إخوتي ممنوعون من زيارتي أمي في الممر تحاول مسح خديها من أثر البكاء تجفيف عينيها أبي يتكلف ابتسامة الطبيب يجس نبضي ويتكلم إلى الممرضات المذعورات بلغة فرنسية لا أفهمها يقترب من أبي يهمس إليه بكلام تنزل من عيني أبي دموع يحاول إخفاءها يغادر الطبيب الغرفة القبر تغير الممرضة القنينة المغذية لجسمي وتخز جسدي النحيل بإبرة وأستسلم للنوم.....

الثلاثاء 16 مارس......

أفتح عيني بتثاقل لم يكن الطائر الأسود يحوم قرب النافذة كثيرة هي الطيور الصغيرة التي جاءت اليوم حط بعضها على الشجرة الباسقة وأخرى وقفت عند شرفة النافذة دوشة في الممر مدير المستشفى ينعي خبر موت الطبيب الذي كان مشرفاً على علاجي... والطائر الأسود لا زال يحوم على غير هدى.......


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى