الثلاثاء ٢٦ آب (أغسطس) ٢٠٠٨
مشاهد مختارة من أفلام (3)
بقلم رانية عقلة حداد

مقدمات تأملية (حياتي من دوني)

"هذه أنت... العينان مغمضتان تحت المطر، لم تفكري يوما بأنك ستفعلين شيئا كهذا، لم ترين نفسك هكذا من قبل... لا أعرف كيف ستصيفينه، كواحدة من هؤلاء الناس الذين يحبون النظر إلى القمر، أو يقفون ساعات يتأملون موج البحر، أو الغروب... أظنك تعلمين عن أي نوع من الناس أتحدث، قد لا تعلمين، على أي حال أنت تحبين أن تكوني هكذا، تقاومين البرد، وتشعرين بالماء ينساب عبر قميصك ويلامس جلدك، والشعور بالأرض تلين تحت قدميك، والرائحة وصوت المطر الذي يضرب الأوراق...، كل الأشياء التي تتحدث عنها الكتب التي لم تقرأيها... هذه أنت، من كان ليظن ذلك... أنت!!".

بهذا المونولوج الداخلي يبدأ المشهد الافتتاحي من الفيلم الأسباني (حياتي من دوني) انتاج 2003، للمخرجة (ايزابيل كويزت)، حيث ما نسمعه هو صوت البطلة آن (سارة بولي) وهي تكلم نفسها بينما الصورة مساحة بيضاء انبثقت من السواد، تستمر 7 ثواني بعدها نتابع المونولوج مترافقا مع وجه آن في لقطة قريبة جدا مغمضة العينين تحت المطر المنهمر بشدة، ثم نتابع عدة لقطات قريبة متنوعة لتفاصيل آن.

اختارت المخرجة أن تبدأ الفيلم بتقديم عالم البطلة الداخلي، بعد تلك اللحظة التي عرفت بأنها مريضة بالسرطان وأنها ستموت عما قريب، الأمر الذي سنعرفه لاحقا كمشاهدين، فتأخذنا آن معها على امتداد دقيقة ونصف هي طول المقدمة، في رحلة تأملاتها وحالتها الشعورية فلا نسمع شيء سوى صوتها الداخلي الممتزج بصوت المطر، فندرك منه أن هذه هي المرة الأولى التي تمنح فيها آن الفرصة لحواسها كي تستشعر الطبيعة، كي تغرف كل ما منعتها انشغالات الحياة من الاستمتاع به وادراكه، فالمعرفة باقتراب الموت جعلتها تقترب أكثر من الحياة ومن تقدير تفاصيلها، لذا ترخي ونرخي معها اذاننا لسماع صوت المطر، ونستشعر مع جسدها المطر المنساب من ملابسها، ومع قدميها ملمس الأرض الذي يلين تحتهما، ومع أنفها نشم رائحة التراب المختلطة بالمطر، تفتح عينها لتستمتع بجمال المطر وتغلقهما متأملة، فمحتوى الصورة ترجمة لما يقوله صوت آن، كما أنه معزول عما حوله بحكم حجم اللقطات القريبة التي لا تظهر سوى تفاصيل جسد آن تحت المطر المنهمر، كوجه آن، يدها والساعة، جسدها، قدميها وهما تلامسان العشب اللين، وعينيها... مما يجعلنا على مسافة قريبة من آن ونختبر نفس تجربتها الشعورية، وتطلق معها حواسنا للاستمتاع وعقلنا للتأمل، دون أن تفقد هذه الأجزاء التفصيلة صلتها بالسياق الكلي لجسد آن، من خلال الانتقال إلى لقطتين قريبتين متوسطتين تظهر جسد آن ومحيطها.

كما لعبت عدة مفردات دورا في ايصال حالة آن النفسية غير المستقرة؛ سواء من خلال اهتزاز الكاميرا حتى في اللقطات الثابتة، أو من خلال الكادر غير المتوازن الذي تحتل آن طرفه في اللقطتين القريبتين المتوسطتين الوحيدتين التي تم استخدامهما من ضمن المجموع الكلي لللقطات القريبة والقريبة جدا.

حاولت الكاميرا المحمولة باليد أن تجعلنا نتعرف على آن ونحيط بها من كل الجهات والزوايا، إذ تتحرك الكاميرا المحمولة يدويا في بعض اللقطات حول وجهها، أو من جزء إلى آخر في جسدها، أو تقترب من وجه آن في آخرى، إلا أن ذلك لا يؤثر على الايقاع الذي يتسم بالهدوء ويدعو للتأمل الذي يمنحه الزمن الطويل لكل لقطة الذي لايقل عن ثانيتين.

لتدرك قيمة الحياة عليك أن تفرد وقتا للتأمل، وتطلق العنان لحواسك كي تلتقط ما يسعها من متعة واختبار لاحاسيس مجهولة... هذا ما ادركته آن بعد أن اكتشفت أنه ليس سوى أشهر قليلة تفصلها عن الموت، فاختارت كويزت الأسلوب التأملي الشاعري لتقدم لنا بطلتها آن، وهو الأسلوب الذي يتلائم مع مضمون الفيلم، إذ أن ليس الهدف تقديم معاناة مريض السرطان وآلامه الجسدية، إنما الإنسان الذي لا يفصله سوى بضع خطوات عن الموت، وهو يدرك تماما هذا، فماذا عساه أن يفعل قبل أن تتسرب الأيام من بين يديه، ولتغدو تأملات آن دعوة إلى الحياة للذين لا يدركون قيمة ما يمتلكونه بعد.


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى