الجمعة ٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم عادل الأسطة

هكذا تبدأ الأشياء

الثاني من آب، السبت مساءً، أجلس وحيداً في مقهى الهموز، ونادرا ما أجلس فيه، وإن كانت لي فيه ذكريات: لعب أوراق الشدة، وعقد أول جلسة تنظيمية، يوم انتميت، لفترة عابرة، لتنظيم فلسطيني. أشرب الشاي وأتأمل في رواده، أراقب الغادين والرائحين، وأشاهد التلفاز، وأمتع نظري ببركة صغيرة فيه. ولا أفهم ما يقوله الجالسون القريبون مني، فهذا لا يعنيني، وربما ما عناني أكثر صوتُ المغنية. تلفت الأراجيل (النراجيل) نظري، وأدرك أنها عادة طفولية، فأتذكر الأطفال ونهد الأم، وأقول: كم تتخذ تلك العادة الطفولية، حين يكبر المرء، من أشكال. هل أخطأ علماء النفس حين ردّوا إليها عادات يمارسها الكبار، وأتذكر كاترين طالبة الأدب الإنجليزي.

يسألني النادل: نرجيلة؟ فأجيبه بالنفي. واطلب الشاي بلا سكر. وأتأمل في الشارع. ثمة امرأة شقراء ترتدي ملابس سودا تعيدني إلى المدينة الألمانية التي درست فيها وتذكرني بأندريا طالبة الأدب الألماني. كانت بيضاء، كانت ترتدي ملابس سودا سودا. تهبط المرأة الدرج المقابل للمقهى، فأقول: لعلها ذاهبة إلى مكتبة البلدية، لعلها ستسير باتجاه منتزه المدينة. لعلها ستنحرف يسارا. لعلها قادمة من المركز الثقافي الفرنسي. ربما ترغب في ذرع شوارع المدينة الغربية. ربما. ربما.

تقطع الشارع تجاه المقهى. لا تسير يمينا ولا تسير يسارا. أواصل تخميناتي: لعلها على موعد مع شخص ما. لعله ينتظرها في المقهى، فما أن يراها، حتى يقوم ويسيران معا. (كم أنا فضولي. ما شأني بها؟).

سأفاجأ بدخولها المقهى. المقهى هذا ليس في أطراف المدينة أو في أسواقها الكبيرة حديثة البناء، ليكون مختلطا. هذا مقهى للذكور فقط، منذ نشأ. وحين كنت أتردد عليه سابقا، ونادرا ما ترددت عليه، لم ألاحظ نساء يترددْن عليه. نحن في نابلس، وربما خلافا للقدس قديما ولرام الله حديثا، لم نألف وجود نسوة في المقاهي.

سأفاجأ بدخولها المقهى، وسيفاجأ غيري من الجالسين أيضا. تهرول نحو جزئه السفلي، فتلفت أنظار الرواد ممن لم يروها من قبل، تأتي إلى المقهى وتجلس فيه. أتأمل فيها وأقول: الضد يظهر حسنة الضد. بيضاء ترتدي ملابس سودا، وتسير واثقة من خطاها. لا تلتفت يمينا ولا تلتفت يسارا. هل نحن موجودون؟ هل يعنيها هذا؟ هل تعنيها نظراتنا؟

سأكتفي بالنظر. أنا أحيانا أكون فضوليا. أكون بصاصا. وحين أكون بصاصا، لا أكون مذيعا. لا أكون معلقا، فلا أتفوه بأية كلمة. أكتفي بالرؤية. هل أنا ملوم؟ إذن لماذا خلق الله لي عينين؟ ولا أفلح في أن أغض بصري.

تسير الشابة، تسير واثقة من خطاها، وأصغي إلى تعليقات الرواد. هل أدونها كما تفوهوا بها؟ هل أفعل ما فعله صلاح عيسى في كتابه: شهادات من أجل تاريخ زماننا؟ هل أفعل ما فعله نجيب محفوظ في "الكرنك"؟ كتب نجيب محفوظ روايته عن المقهى ورواده.

عن العاملة قرنفلة وحبها لأحد الرواد. ونابلس غير القاهرة. كم شاهدنا من أفلام مصرية لا تكون المرأة من رواد المقهى، بل عاملة فيه تقدم المشروبات للزبائن او تصنع الشاي والقهوة والمشروبات الأخرى؟ كم؟ أورد ما تفوه به الرواد أم لا أورده؟ ثمة كلام مخجل لا أستطيع كتابته أنا الذي يميل إلى التلميح لا التصريح، فلا أكون مثل الكاتبات العربيات الجديدات الجريئات: مثل سلوى النعيمي في برهان العسل، وفضيلة الفاروقي في اكتشاف الشهوة، وصبا الحرز في الآخرون و....و...

المرأة تجلس. لا أعرف إن كانت تجلس وحيدة. لا أعرف إن كانت ستدخن النرجيلة في هذا المقهى الذكوري الذي ذكرني بمقاهي عمان في قسمها الغربي، ونابلس غير عمان الغربية. هل ستغدو نابلس مثل عمان الغربية؟ أنتا أتردد على مقهى فيينا كفي في فندق عمرة، وأتردد على مقاهي الشميساني ولا ألتفت إلى النسوة يدخن النراجيل، ألأنهن كثر؟

أتخيل نابلس بعد عشرين عاما، كما تخيل (ثيودور هرتسل) فلسطين بعد عشرين عاما من سيطرة الحركة الصهيونية عليها: من مستنقعات إلى مدن بيض. طبعا لا أوافقه. هل تبدأ الأشياء هكذا؟ خطوة بسيطة. أظن ذلك.

خارج السياق: هكذا تنتهي الأشياء

السبت ليلا، اجلس في المنزل فأشعر أن ثمة ما يقبض على قلبي. هل أذهب إلى المشفى أم أستريح قليلا؟ فلعله عارض طارئ؟ هل أسرفت في المشي؟

أتابع نشرة الأخبار، فأشاهد ما لا يسر. أتذكر قصة نشرها كاتب تونسي في مجلة العربي عنوانها (الغرانيكا)، وأتذكر يومية محمود درويش: أبعد من التماهي. تبرعت بمجلة العربي، وما زلت أملك "أثر الفراشة"، فأقرأ فيه ما كتبه درويش: أجلس أمام التلفزيون، إذ ليس في وسعي أن أفعل شيئا آخر.

ومثله: أمد يدي المقطوعة لأمسك بأعضائي المبعثرة من جسوم عديدة، فلا أجدها.

واجدها:

أشاهد الفلسطيني عاريا، هاربا من حي الشجاعية في غزة يسلم نفسه إلى قوات (تساهل) لينجو من سلاح المقاومة، هو الذي قاوم وقاوم. أشاهد العينين المعصوبتين، وورقة توت تستر مقدمة ابن خلدون في الخراب ومؤخرته في العمران، كما لو أنه على شاطئ البحر. هل كنا مثل تلك التي ترتدي فستانا لتستر جسدها، فلما قرع قارع بابها أرادت أن تستر وجهها فبان ما تحت فستانها، ولم تكن ترتدي تحته شيئا؟

أتذكر محاصرة سجن أريحا. أتذكر الخروج. هل شعرت يومها بالذل؟ كان المحاصرون إسرائيليون. أتذكر العام 1971. كنت يومها شابا يافعا ينتمي بجوارحه كلها للمقاومة والفدائي وأغاني الثورة. هرب الفدائي من مدفعية أخيه العربي لينجو بنفسه، فسلم نفسه لجندي الاحتلال. ما حدث في غزة لا يختلف عما حدث في العام 1971. هل شتمت يومها إخواننا العرب؟ لماذا إذن لا أشتم الآن وكلاء الله على أرضه. سأتذكر قصة ليحيى يخلف يقول فيها:

إن السمك، ورمز به للفدائي الفلسطيني، يفضل الموت غرقا في النهر على الاستسلام للعدو. فأتساءل: أما كان بديل آخر أمام حماس وأبناء عائلة حلس ممن ينتمون لفتح؟ أما كان لحماس أن تتعلم مما حدث معها ومع الإسرائيليين. حاصرها الأخيرون فوافقت على التهدئة، فلماذا لم تحاصر أحمد حلس ورفاقه مدة أطول علها تجد مخرجا آخر غير القتل والدمار وإجبار الآخرين على الاستسلام لـ(تساهل). هدأت حماس مع الاحتلال لتقاوم المقاومة. أهكذا تنتهي الأشياء؟

ليل السبت، الثاني من آب، كان ليلا مذلا. كم من فلسطيني، لحظتها، تمنى الموت؟ كم؟


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى