الأربعاء ٣ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم عبد اللطيف النكاوي

تقاطع باريس لتقاطع الخطابات المتسوّلة

يتوقف الميترو. تتململ الأجسام أمام الباب. تتزاحم. تكثر الالتفاتات. عبارات الاعتذار والاستسماح. الجو داخل العربات مثقل بالصمت. ينفلق باب العربة. ينزلق البعض أعينا تبحث عن علامات الخروج أو المراسلة. يركب آخرون، يحاذرون المشي على أرجل بقية الركاب. ينغلق الباب. يدخل الميترو النفق. ترتفع جغجغات من تحت العربات. ينساب في النفق ملتويا مع المنعرجات عند كل منعرج، تتمايل الأجسام، تتداخل داخل العربات، ترتفع الأنفاس، تختلط الروائح والعطور. تتزاحم القارات، الأجناس، الأزمان والطبقات. كشكول غريب من الإنسان. تتأسس لغة الأنفاس والصمت، ابتسامات محتشمة. باريس لا تبتسم. إشارات، تململات، تلونات، تجاهلات تقول: انه الميترو. مناطق حمراء هي الساعات الأولى والوسطى والأخيرة من النهار. انها ساعات الصمت القصوى. على الرصيف كان يعد خطبته، ينتظر مرور الساعات الحمراء. يتوقف الميترو للمرة...يقوم من كرسيه الحديدي على الرصيف. يتأمل العربات. يختار عربة. مقياسه في الاختيار الوجوه الغريبة. باريس لا تسعى ولا تحب الساعين. ميشال شاب باريسي. يركب العربة. يتصفح وجوه الركاب. في ضوء حالة الطقس، الزمن، الأحداث، الوجوه...يختار ميشال خطبته. في فرنسية لا تشكك في انتماء ميشال، وبغنة باريسية واضحة يبدأ ميشال خطبته الأولى:

  " أيها السادة، أيتها السيدات، اسمحوا لي على الإزعاج. أنا بدون عمل، بدون مأوى، خرجت لتوي من المستشفى... شيكا مطعميا أو بعض القطع النقدية تساعدني على ضمان الأكل والنظافة..يوم سعيد وشكرا مسبقا ".

يتقدم بين الصفوف بخطى بطيئة: " شكرا سيدي، شكرا سيدتي "...يغادر العربة في المحطة التالية وقد اغلق كفه على بعض الفرنكات. يركب العربة المجاورة. يتحرك الميترو. يغوص في النفق. في الأنفاق. ترتفع تعليقات محتشمة:
  " انهم يزعجونني "
  " يتكاثرون بشكل غريب "
  " إنّا نساعدهم على التكاثر.."
  إنها الحياة ومن يدري.."

كانت تأتينا أصداء الخطبة الثانية من العربة المجاورة:

  " سادتي، سيداتي، أولا اسمحوا لي على الإزعاج. هناك ثلاث طرق للنجاح في الحياة: العمل الذي لم أجده وهو أحسنها، السرقة وهي شيء قبيح ويقود إلى السجن وأنا اعرف بالتجربة معنى ذلك، الطريقة الثالثة والأخيرة هي ما افعله الآن أي التسول: اقتراح عمل، قطعة نقدية، شيك مطعمي....وشكرا مسبقا."

خطبة فيها اجتهاد، بعضهم يساعد إعجابا بالنص اكثر منه إشفاقا على حالة الرجل. ويمضي الميترو، تردد أنفاقه أصداء الخطب المتسولة. على الرصيف يلتحق ببقية الرفاق الذين جلسوا يعدون ثمن الخطب. يشربون الجعة، يشتمون الناس والحياة. يجمع " المحتسب" النقود. يعدها. يصرخ في المجموعة:

  "خمس قنينات من الفان دي بيي ثمنها ستة أورو وليس معنا غير ثلاثة!"

ينتفض الجميع نحو جولة خطابية جديدة. يركبون أول ميترو. يتوزعون على الخطوط، على الأنفاق، على المداخل والمخارج، تتناغم الخطب:" سادتي، سيداتي، أخرج من السجن...أخرج من المستشفى...بدون عمل...بدون مأوى... قطعة نقدية... شيك مطعمي...للنظافة... للحياة... يوم سعيد..شكرا سيدي... شكرا سيدتي...". "المحتسب " ينتظر على الرصيف، على ركبتيه جلست دانيال، مكشوفة الفخذين، عبر جرعات متتالية كانت تشرب قنينة من الجعة، وبين الجرعة والجرعة كانت تحتسي شفتي صاحبها. توزع اللعنات على الحياة، على الناس، على العالم. يقهقهان. ينظران عند وصول كل ميترو عما إذا كان قد عاد أحد الرفاق.

  جنس الصعاليك ! علق أحدهم.

ديكور بشري يتناغم وبقية الألوان والأشكال. ملصق من ملصقات الميترو الاشهارية. الفرق هو انه ملصق لا يتغير. لكنه يتكاثر. هي جمهورية الصعاليك.

  " اسمي جان فرانسوا، عمري خمس وعشرون سنة، أنا الآن بصدد البحث عن عمل، لذا قررت الاستنجاد بكرمكم لضمان الغذاء والنظافة...".

كان في وسط خطبته حين ارتفع من الركن الآخر للعربة صوتان صغيران يرددان أغنية وحدهما الطفلان يفهمان كلماتها. طفلتان رومانيتان لا يتجاوز عمرهما الخمس سنوات. تتسللان عبر الصفوف، تجمعان ما تفضل به الركاب. يتوقف الميترو. ينفلق الباب وينزل جان فرانسوا وتنزل الطفلتان لتلتحقا بامرأة كانت تفترش الرصيف يتسلقها رضيعان، تردد في فرنسية ركيكة: موسيو (بتفخيم الميم)، مادام إيدو موا..روفجيو رومان ( سيدي، سيدتي، ساعدوني، لاجئة رومانية ). ثارت رومانيا ففرخت لغة للتسول جديدة في أنفاق الميترو وساحات باريس.

وجوه من كل العالم. من الجنوب والشمال والوسط.تتعدد اللغات ويبقى النسق الجامع والموحد هو التسول. لا معنى للإيديولوجية في هذه الجمهورية، فإذا دب خصام فمن اجل فرنك ينقص لاقتناء قنينة خمر.

  " سيدي..سيدتي.. يوم سعيد.. شكرا..الى اللقاء...".

وقف الميترو، ينفلق الباب. تنزل المجموعة الأولى. تلحقها الثانية. يدفع الجميع ما معه. يحسب " المحتسب " ثم يصيح في الجماعة:

  " معنا ما يكفي للخمر والخبز والسجائر ولاقتناء هدية لسوزان بمناسبة عيد ميلادها ".

انتفضت من مكانها وقفزت تقبله قبلا مجنونة.

  سنحيي حفلة رائعة !

تفرق الجميع على موعد اللقاء الليلة للسهرة والاحتفال بعيد ميلاد سوزان.
الساعة تقترب من منتصف الليل. المحطة محطة الجمهورية. فارغة إلا من بعض الأجسام متمايلة تتطلع إلى فوهة النفق... تنتظر الميترو الأخير.

  لقد أتيت على القنينة يا روجي !

يفرش ميشال الجرائد على الرصيف، وعليها صفف مجموعة من قنينات الخمر، بعض الجبن، بعض الخبز، وأربع علب سيجارة كولواز. وقفت سوزان تمشط شعرها المخضب بالغبار على مرآة الأمان، تسوي لباسها القصير والكثير الإلتواءات... صمت رهيب يخيم على المحطة.. من بعيد وعبر الأنفاق المتشابكة تأتي أصوات، قهقهات، وبسبسات الفئران على السكة...

  انتم كلكم هنا ؟ يصرخ ميشال.
  وي (نعم) ترد المجموعة.

ويبدأ عيد الميلاد. يتخاطفون قنينات الخمر..يلاحق بعضهم البعض...

  أنت تبالغ !
  أنا لم أشرب غير جرعة واحدة.
  أنا لم أذقه منذ البارحة.

ترتفع الأصوات ويكثر الضجيج وقبل أن تطفئ سوزان شمعاتها الثلاثين التي صففها ميشال على الأرض فثمن الحلوى يتجاوز بكثير قيمة الخطابات، وقبل أن تعرف هديتها...دخل رجال الحراسة الليلية فانتفض الجميع:

  لقد نبهتكم مرارا إلى انه يمنع بشكل قطعي البقاء داخل المحطات بعد منتصف الليل...هيا اخرجوا ! يصرخ رئيس الدورية

يتقدم الجميع نحو باب مخرج الإغاثة وسط مناخ من الشتم والسباب المتبادل وينفلت ميشال من الحراسة وينزل إلى السكة ويغيب في النفق تحت تصفيقات وصراخ بقية الرفاق وسباب الحراس. ويأتي صوته من داخل النفق:

ولتذهب إلى الجحيم أيها الشرطي القذر !

يتوقف الميترو. ينفلق الباب. لا أحد ينزل ولا أحد يركب. الكل في الخارج وفي غنى عن أنفاق باريس. المحطة: باربيس روشوشوار. في دروب هي إلى الأنفاق أشبه كانت تتصايح خطابات بلغة أخرى، باربيس بؤرة نابضة في قلب الدنيا النابض.

  آوليدي في سبيل الله !

الخطاب واضح، تتضوع منه أيديولوجيا الكاريان وبخور ساحة الفناء. حتى لا يقال بخلاء صدرنا كل شيء: الفرد، الأسرة، الأرض، المال، التسول وأشياء أخرى..

  آوليدي...على الوالدين !

اللغة مغربية. وجوه نسائية ورجالية ركبتها التجاعيد تحرس مداخلا ومخارجا ومنعطفات في جزيرة العرب الباريسية. وجوه ترحل حيث رحل العرب وتكثر حيث يكثر العرب: الأسواق الأسبوعية.

  !علق أحدهم وهو يستعرض جوقة من الحرس المتسول في مدخل أحد الأسواق الأسبوعية.

لغة لا تركب الميترو والقطارات. إنها لغة لا تتوسل الا نفسها. "البعد القومي في ظاهرة التسول العربي في باريس ". موضوع رائع لرسالة دكتوراه تناقشها لجنة من متسولي باربيس.

انتهت زهرة من بيع فطائرها، جمعت عتادها المتكون من صندوق كارطون فارغ وبعض القماش اقتربت من يطّو التي كانت تجلس القرفصاء على الطوار تبيع دعاويها وأودعت في كفها بعض القطع النقدية:

  عنداك يسرقو ليا الكارطون واطلبي معيا الله ما يقبطونيش.

زهرة لغة للتسول من نوع آخر. لقد جربت كل الحرف السوداء. وصلت إلى باريس على بساط بركة الله وقدرة حرّايقو. تشتغل بدون شغل وتقيم بدون إقامة. ديكور ينضاف إلى ديكور أزلابيا، المارقاز،لعبة الصفراء، الشكشاكا: عشرة تدّي خمسين، عشرين تدّي ميا.

مسرح يستحضر إلى الذهن فضاءات مداخل قاعات السينما في الأحياء القديمة. إنها عملية التشكل والاندماج الذاتي تسخر من خطابات الدمج والاستلاب. فضاء للتمرد على الجسم الملطخ بالدماء السمراء.

يقف الميترو. ينفلق الباب ويبقى مشرعا على الخطب، الغناء والدعاوي: سيدي..سيدتي..موسيو..آوليدي....


أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى