الجمعة ٥ أيلول (سبتمبر) ٢٠٠٨
بقلم أحمد نور الدين

هل يترك الغزال وحيدا

عندما تتلاشى الأنغام يبدأ العذاب.
عندما أخلد الى نفسي يستفيق النوم، وتصحو الآلام بعد خمود.
تلفني الظلمة ولا يؤنس وحشتي الإ السيجارة الرخيصة التي أشتريها من ذاك كشك تحت الجسر.
وتبدأ الأسئلة الخبيثة بالنهوض والإنتصاب داخل أحشائي، تتسلق منحناي الهزيل، وتنشب مخالبها وأنيابها في صدري الذي يسحر ذاك المقيت الذي يدعى فراس.
الأسئلة الخبيثة لها قبضات كالفولاذ.
إنها تخنقني، تحاول قتلي.
وعبثا أحاول تفريغ رأسي من أبخرة الحيرة وأشباح التساؤلات، ولا تأتي محاولاتي اليائسة إلا بالإخفاق والإنكسار. وأتأوه ثم أتكوم في الفراش كأفعى أجبرت على تجرع سم كانت هي قد بخبته بنفسها.
ولا تنجو الأفعى من سمها، أو على الأقل، لا أنجو أنا!
لماذا خلقت ضعيفة؟ لماذا خلقت أنثى؟
وأستنهض جسدي المنهوك، في محاولة للجلوس، فأسند ظهري الى الحائط وبمشقة أشد نفسا أملئ به رئتان متقرحتان، أو هكذا هو الشعور!
يتحدثون عن رحمة واسعة، يتحدثون عن رحمة الله.
وأنا ضائعة، تائهة في شوارع المدينة.
أبحث عن رحمة ربي كل يوم، والله رحيم كما يقولون، لولا ذلك لكنت من الهالكين، لكن في صدري تساؤل يحوم منذ زمن بعيد، أخشى أن أفصح عنه حتى لنفسي، أخشى أن رحمة الله تسعني إلا قليلا!!
أستغفر الله العظيم ولا حول ولا قوة إلا بالله.
يقال بأن الجمال نعمة، وقد أنعم الله علي نعمة واسعة.
بيد أني أكره هذه النعمة كرها لا أستطيع خلعه من داخلي، لأن الجمال الذي أعطانيه ربي، مشكورا، لم يجلب لي سوى الذل والخوف وعدم الإطمئنان.
جمالي وهج مشع، وكل الذئاب باتت تعشق الشعاع، وتعشق الدفئ الذي قال فراس بأنه يسكن شفتاي، ويطفئ بحرارته لهب الصقيع المتفشي في الأجساد والقلوب.
كان أبي رجلا طيبا.
مسكين أبي، فلم يكن يعلم، ولم يصدقني حين حاولت أن أشرح له، وألفت نظره الى ما كان يجري.
قلت له بأن صديقه الحاج رجل شرير، فنهرني وطلب مني أن أندم.
قال يجب أن أندم لأنني أقول هذا الكلام عن رجل حاج ورع مثل الحاج أبو نايف.
قلت له يخيفني بتصرفاته، يرعبني عندما يترصدني من خارج الغرفة دون أن أشعر له بوجود، وقلت له أكثر من ذلك..
قلت بأنه ينظر إلي نظرات غريبة، يسمعني كلاما مبهما لا أفهم معناه، وقلت بأنه حاصرني ذات مرة في زاوية الحجرة!
فقال أبي مزاح بريء!
ولم يشئ أبي أن يصدق كلامي، أن يعير شكواي أذنا صاغية وعقلا متفهما. إلى أن جاء يوم ليس منه فرار.
الحاج الطيب الورع إغتصبني في فراشه الطاهر، ومخدعه المحاط بآيات كريمة معلقة على الجدران.
كتمت ألمي وداريت كسوري، وعدت متماسكة الى البيت، قررت أن لا أعود الى ذلك الوحش بعد هذا اليوم.
قلت لأبي لن أعاود الذهاب.
فصاح بوجهي متألما، قال لا يوجد في حوزتنا مال، قال أنه مريض وأنه إذا لم أعمل أنا فسوف نضيع ونرمى في الشارع كالكلاب الضالة لا مأوى ولا طعام.
*******
قلت لفراس وأنا أنفخ الدخان من شفتين متورمتين:
- كم أنك قاس معي!
فنظر فراس إلي نظرة داهشة وقال بحدة مباغتة:
- أنا؟ هل تقصدين ما تقولين؟
فقلت له بسخرية:
- لا تندهش يا عزيزي، ولا تنفعل، أمازحك فقط.
فدنا مني ووضع كفه على رقبتي ثم ضغطني باتجاهه، وانتزع من شفتاي قبلة عنيفة لم يشفع لي فيها كثافة الدخان المنحبس في جوفي.
****
وفي فترةٍ كان قد استحفل المرض بأبي، ونال من كل خلية من خلايا جسده الآخذ في الإهتراء، يصدمني الحاج ذات مساء، وقد فرغنا للتوٍ ونهضنا من الفراش، إذ يقول لي بصوت بارد:
- هذه آخر ليلة!
ومات أبي، فضاقت بغربتي القرية وهبت رياح المدينة.
*****
في المدينة ذئاب وغزلان، وليس للغزال من ملاذٍ سوى واحد من الذئاب. لعل ذئبا يقيه من باقي الذئاب.
قال لي فراس ذات خلوة:
- ألا تتصورين كم من المهالك أجنبك يا غزالتي؟ ولكنك جاحدة لا تقدرين الجميل!
يقبلني فراس بشراهة كبيرة، وكأنني الغزال الوحيد.
أدرك أنني لست وحيدة، فالحقل يعج بالغزلان.
أما اليوم فهو يوم آخر كما يقولون في الرويات، الليلة لية أخرى، مختلفة عن سابقاتها اختلافا جما.
فالغزال الذي عرفه صبح هذا اليوم لن يجده ضحى اليوم الآتي بعد طول ليل مسكون بظلام من الوحشة والألم والعذاب.
ومن عساه يسمعُ صرخة الغزالِ حينَ تشقُّ صدْرَهُ مِدْيَة اللحظةِ الأخيرة؟
لا أحد.
لن يسمع صرختي أحد، ولا حتى فراس.
فراس رَحَلَ في ليل فائت وتركني وحيدةً.
أكدَ لي أحدُهم بأنَّه رآه سابحا بدمه ساعةَ الغروب في أحد الأحياء المشبوهة.
هل ذهب ليحَصِّلَ حقه من إحداهن كما كان قد توعد لي؟ ولكنني نهيته عن فعل ذلك، وحذرته من غدرِهِنَّ، قلت له لا حقَّ يُرجى عند عاهرة تبدل الرجال في اليوم الواحد كما تبدل ملابسها، ولكنه لم يسمع مني، وأصر على الرحيل، ليُترك الغزال بدون ذئبٍ يحميه.
فماذا الغزال يفعل؟
هل يبقى وسط الذئاب شريدا، تائِها، بلا حامٍ ولا معين، فيلقى حتفه ويتم افتراسه، أم يبحث لنفسه عن ذئب جديد يذود عنه؟
لا أظن ذلك.
فلقد أَزَفت الساعة، وتكشفت كل الأدلَّة ساطعةً لا لُبس فيها.
وغادر الجمالَ شعاعُهُ ووهجُهُ، ولم يبقى منه سوى شحوب وصفرة باهتة، وليس إلا لحظات، ينشق بعدها الصدر عن نور حبيس، وترحل الروح الى حيث يأذن بارئها..

أي رسالة أو تعليق؟

مراقبة استباقية

هذا المنتدى مراقب استباقياً: لن تظهر مشاركتك إلا بعد التصديق عليها من قبل أحد المدراء.

من أنت؟
مشاركتك

لإنشاء فقرات يكفي ترك سطور فارغة.

الأعلى